كتاب التضمين النحوي في القرآن الكريم (اسم الجزء: 1)

المأبوه لها والمحتجبة وراء النظم وأتدسى معانيها المغيبة في الصياغة، وأصغي لأنغام جِرسها في التركيب، وخفقات إيقاعها السارب في النفس، والمتغلغل في ثنايا نظامها المعجز من غموض الحال ولطف المُتسرَب، أو في بيانها المشرق السَّخيِّ بالإشراق، حيث تحمل أكثر من دلالة تبعاً للغرض من السياق الوارد فيها، دلالة بالتلميح أو التصريح، بالإيحاء أو الإفصاح، بالتعريض أو التكشيف، بالمشارفة أو المظاهرة، وفهم المراد يتطلب قدْرا من مهارة القارئ الحصيف في معرفة هذه الدلالة على ضوء العلاقات بين مفردات نسيج الجملة، فقد حمى أصحاب هذا اللسان حواشيها وهذّبوها وصقلوا غروبها وأرهفوها وإني لأرجو أن أكون قد استحْيَيْت قدراً من جمالها الفني الخالص، واستنقذتها من رُكام التأويلات النحوية المعقدة، عُزوفا عنها وتحامياً لتجَشُّم الكلفة فيها. فعناية أغلب النحاة كانت بتحليل الأجزاء لمكونات التركيب أكثر من عنايتهم بالتركيب نفسه.
حروف المعاني جواهر سنيّة في كتاب اللَّه المبين، تأتي على قدر، تتحكم في توجيه المعنى، وتتصرف في وجوهه، تسري أحكامها في أحناء الجملة وحواشي التركيب، فمن تفطّن لها ممن صحّ ذوقه، وتمت أداته، وأمدّه اللَّه بصفاء القريحة وأيده بمضاء الرؤية، أرتْه من أسرار كتاب اللَّه ما استودعها من إحكام الصنعة فيه، مما هو أليق بمعناه، وأوفق لمراده الذي يُسفر ويَضَح مع الاستقراء له والفحص عن كنهه، أما من رماها للتعاور والتناوب، فلا تحفِل به، واحفظ نفسك منه، ولا تسترسل إليه.
وكنت أود لو نشَّمت في شواهد من التضمين في الحديث الشريف (¬1)
¬_________
(¬1) على سبيل المثال: "كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا" الحديث تقدم تخريجه، قال ابن حجر في فتح الباري: 1/ 196: ضمن السآمة معنى المشقة فعدّاها (بعلى) وفي حديث البخاري: "الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي" قال ابن حجر في الفتح: 11/ 291: كذا عُدي (الحق) بـ (إلى) وكأنه ضمنها معنى (انطلق).

الصفحة 13