كتاب التضمين النحوي في القرآن الكريم (اسم الجزء: 1)

متلئبة، والتأمل فيها يمكنك منها. قال ابن درستويه: في جواز تعاقبها إبطال حقيقة اللغة، وإفساد الحكمة فيها، والقول بخلاف ما يوجبه العقل والقياس.
والتضمين يمنح الفعل أو مشتقه معنى فوق معناه والذي تضمنه بالرمز والإيماء من طريق يخفى ومسلك يدقّ، غير مصرحٍ بذكره، أو مكشوفٍ عن وجهه، ولا مُفصِحٍ عن غرضه، كأنما يرسل في العبارة توهجاً من طاقته فيمنحها قوة تعلو باللغة سمواً، وتُزكيها متعة كلما ازداد البصر فيها تأملاً، فهو محيّر ولكنّ الحسن كذلك، والحمل على المعنى غَور بعيد، ومذهب نازح فسيح، متى قام الدليل عليه، أو شهدت الحال به.
ومن شأن الحرف -وقد دخل على فعل أو مشتق لا يتعدى به- أن يكسب المعنى نبلاً، ويمنحه فضلاً، ويوجب له شرفاً، تَطْرَبُ له نفوس السامعين، وتجعل له مزية عند المخاطبين، فهم في قوله تعالى (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) (¬1) لا ينشدون الشرب للري، ولا يطلبونه لإطفاء الظمأ، لأن أهل الجنة لا يظمؤون وإنما ينشدون من الشرب المسرة ويطلبون اللذة والاستمتاع.
أجل حين تعدت الأفعال أو مشتقاتها بغير حرفها أبدع التضمين إبداعه فيها، فإذا هي أزهار موشاة بألوان جديدة من معان لطيفة كالنجوم الزهر يأتلِقن من الجمال في دارة القمر -المضمن- لتكون مِنَصة للعروس -المضمن فيه- أو كمُجْرِي الجَموح بلا لِجَام، ووارد الحرب الضروس من غير احتشام.
ولعل الذي دفعني لموضوع التضمين هذا هو التنقيب عن خصائص هذه اللغة والكشف عن أسرارها رغبة في جديد، فحين ضمنت العربُ الفعل فعلاً آخر فقد أودعت الأول الثاني لتُنهض مُنّته، فصار بهذا صفيّه وتليّه، وأصارتْه الصُحبة أن يحل محله فجمع بلاغتين لأنه لزّ معنيين، فالعرب تلجأ إليه عناية
¬_________
(¬1) الإنسان: 6.

الصفحة 22