كتاب الجموع البهية للعقيدة السلفية

وَبِالنَّظَرِ فِي هَاتَيْنِ الْمَقَالَتَيْنِ نَجِدُ الْآتِيَ: أَوَّلًا: التَّشْبِيهُ فِي الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَسْلَمُ، لِأَنَّ وَصْفَ الدَّوَابِّ فِي حَالَةِ الْمَشْيِ لَيْسَ وَصْفًا فِعْلِيًّا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ضِمْنِ خَلْقِهِ تَعَالَى لَهَا وَلَمْ يَكُنْ مِنْهَا فِعْلٌ فِي ذَلِكَ.
ثَانِيًا: مَا اسْتَدَلَّتْ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ، «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ» لِبَيَانِ الْمَصِيرِ وَالْمُنْتَهَى، وَفْقَ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ وَالْإِرَادَةِ الْقَدَرِيَّةِ.
وَالْحَدِيثَ الثَّانِيَ لِبَيَانِ مَبْدَأِ وُجُودِ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّهُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حِينَمَا يُولَدُ، أَمَّا مَصِيرُهُ فَبِحَسَبِ مَا قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ كَلَامًا لِلزَّجَّاجِ وَقَالَ عَنْهُ: هُوَ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَنَصُّهُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْكَافِرَ، وَكُفْرُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْكُفْرِ وَخَلَقَ الْمُؤْمِنَ، وَإِيمَانُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْإِيمَانِ. وَالْكَافِرُ يَكْفُرُ وَيَخْتَارُ الْكُفْرَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ اللَّهُ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلِمَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ وُجُودَ خِلَافِ الْمُقَدَّرِ عَجْزٌ، وَوُجُودَ خِلَافِ الْمَعْلُومِ جَهْلٌ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْأمة اهـ.
وَلَعَلَّ مِمَّا يَشْهَدُ لِقَوْلِ الزَّجَّاجِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
هَذَا حَاصِلُ مَا قَالَهُ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ، وَهَذَا الْمَوْقِفُ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْ مَأْزِقِ الْقَدَرِ وَالْجَبْرِ، وَقَدْ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ، وَبِتَأَمُّلِ النَّصِّ وَمَا يَكْتَنِفُهُ مِنْ نُصُوصٍ فِي السِّيَاقِ مِمَّا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ: نَجِدُ الْجَوَابَ الصَّحِيحَ وَالتَّوْجِيهَ السَّلِيمَ، وَذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} .
فَكَوْنُ الْمُلْكِ لَهُ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ، وَكَوْنُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

الصفحة 703