كتاب السر المكتوم في الفرق بين المالين المحمود والمذموم
وتأمل حادثة سلمان وأبي الدرداء، فيما أخرج البخاري (1968، 6139) ومسلم (182) عن أبي جحيفة قال: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء -وهي زوجه- متبذِّلة؛ فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له: كل فإني صائم. فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل؛ فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم. فنام، ثم ذهب ليقوم؛ فقال: نم. فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن. فصلينا فقال له سلمان: «إن لربِّك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍّ حقّه» (¬1) . فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صَدَقَ سلمان» .
يتبين لنا من هذا أن الفعل والترك يتعلق بهما الحساب، وإذا كان كذلك، فلم يبق مجالاً لذم المال من هذا الوجه.
• فصل النزاع:
والصواب في هذا الباب: أن تناول المباح، وتحصيل المال من حلِّه؛ لا يصح أن يكون صاحبه محاسباً عليه بإطلاق، وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه، إما من جهة تناوله واكتسابه، وإما من جهة الاستعانة به على التكليفات، فمن حاسب نفسه في ذلك وعمل على ما أمر به، فقد شكر نعم الله، وفي ذلك قال الله -تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} إلى قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] (¬2) .
¬_________
(¬1) أشدُّ واجب وأهمه في شرع الله تعالى -في نظري-: إعطاء كل ذي حق حقه، فالنفوس ترغب، والأهواء تميل، وقد يكون ذلك مع شيء يحبه الله -تعالى-، ولكن (إعطاء كل ذي حق حقه) يحتاج إلى إرادة تامة صحيحة، وتصوّر جملي سليم، والله الموفق.
(¬2) يؤكد ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر (الحساب اليسير) في قوله -تعالى-: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق: 7-8] بأنه العرض، لا الحساب الذي فيه مناقشة =
الصفحة 10
273