كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر (اسم الجزء: 68)

وظلمة المشيمة يدر الله عليه رزقه في جوف ظلمة البطن فإذا خرج من البطن وقع في اللبن لا يسعى إليه بقدم ولا يتناوله بيد ولا ينهض إليه بقوة بل يكره عليه حتى يرتفع عن اللبن وينظم ويقع في المنزلة الثالثة بين أبويه يكسيان عليه فإذا ماتا تركاه يتيما فعطف عليه الناس يطعمه هذا ويكسوه هذا رحمة الله وكذلك الله تعالى لا يناوله الله العباد شيئا من يده إلى أيديهم ولكن يرزقهم وينزل عليهم من خزائن ما عنده على يدي عباده بقدر ما يشاء حتى إذا بلغ منزلته الرابعة واستوى خلقه واجتمع وكان رجلا خشي أن لا يرزقه الله أجترأعلى الحرام وعدا على الناس فقتلهم على الدنيا فسبحان الله ما أبعد هذين الأمرين (1) بعضهما من بعض يحسن ظنه بالله وهو صغير وإذا كبر ساء ظنه فأوثق نفسه في طلب ما كفل له به يا معشر الحواريين اعتبروا بالطير يطير في جو السماء هل رأيتم طيرا قط يدخر بالأمس رزق غد ألم تروه (2) يأوي إلى وكره بغير شئ ادخره ثم يصبح غاديا (3) مستبشرا فيعرض له رزقه ثم يرجع كذلك إلى وكره وكذلك البهائم والسباع والحيتان والوحوش وابن آدم يدخر رزق الأبد في يوم لو قدر عليه ولو فارق الدنيا وعاين الآخرة لندم ندامة لا تغني عنه شيئا يا معشر الحواريين إن أبغض العلماء والقراء إلى الله الذين يحبون أن يسودوا في المجالس ويذكروا عند الطعام ويشار إليهم بالأصابع الذين يفرغون جرايب (4) الأرامل أولئك يضاعف الله لهم العذاب يا معشر الحواريين بحق أقول لكم ما الدنيا تحبون ولا الآخرة ترجون ولو كنتم تحبون الدنيا عملتم العمل الذي تدركون به الدنيا ولو كنتم ترجون الآخرة لعملتم العمل الذي تدركون به الآخرة بحق أقول لكم أمسيتم في زمان كلامهم كلام الأنبياء وفضلهم فضل السفهاء كلامكم دواء يبرئ الداء وقلوبكم داء لا تقبل الدواء فقد قتلتم أنفسكم على حب الدنيا قلوبكم تتلقى من أعمالكم وأعمالكم لا تتلقى من ذنوبكم اعلموا أن هذه الأرض تحمل الجبال وهذه الجبال تمسك الأرض وأجسادكم تحمل قلوبكم وقلوبكم لا تمسك أجسادكم بحب الدنيا زاغت فمالت بكم سحرت الدنيا
_________
(1) بالأصل: الأمر
(2) غير واضحة بالأصل
(3) بالأصل: عاديا
(4) كذا بالأصل ولعله تصحيف جرب جمع جراب أو أجربة والجراب المزود أو الوعاء (القاموس)

الصفحة 61