كتاب نهاية السول شرح منهاج الوصول

دنيوي ضروري كحفظ النفس بالقصاص، والدين بالقتال، والعقل بالزجر عن المنكرات، والمال بالضمان، والنسب بالحد على الزنا، ومصلحي كنصب الولي للصغير، وتحسيني كتحريم القاذورات، وأخروي كتزكية النفس، وإقناعي يظن مناسبا فيزول بالتأمل فيه".
أقول: لما تقدم أن الطرق الدالة على العلية تسعة، وتقدم منها شيئان هما: النص والإيماء بأقسامهما، شرع في الثالث وهو الإجماع، فإذا أجمعت الأمة على كون الوصف الفلاني علة للحكم الفلاني ثبتت عليته له، كإجماعهم على أن العلة في تقديم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في الإرث هو امتزاج النسبين، أي: كونه من الأبوين, وحينئذ فيقاس عليه تقديمه في ولاية النكاح والصلاة عليه, وتحمل النقل بجامع امتزاج النسبين. قوله: "الرابع" أي: الطريق الرابع من الطرق الدالة على العلية المناسبة، ثم إن المصنف شرع في تعريف المناسب؛ لأنه المقصود هنا، ويعرف منه تعريف المناسبة، والمناسب في اللغة هو الملائم، واختلفوا في معناه الشرعي، فقال ابن الحاجب: المناسب وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا من جلب منفعة أو دفع مضرة، وذكر الآمدي نحوه أيضا، وذلك كالقتل العمد العدوان فإنه وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم عليه وهو إيجاب القصاص على القاتل حصول منفعة، وهو بقاء الحياة، وإن شئت قلت: دفع مضرة وهي التعدي، فإن الشخص إذا علم وجوب القصاص امتنع عن القتل، وفي التعريف نظر؛ لأن المناسب قد يكون ظاهرا منضبطا وقد لا يكون بدليل صحة انقسامه إليهما، حيث قالوا: إن كان ظاهرا منضبطا اعتبر في نفسه، وإن كان خفيا أو غير منضبط اعتبرت مظنته، وقال الإمام: من لا يعلل أحكام الله تعالى يقول: إن المناسب هو الملائم لأفعال العقلاء في العادات، ومن يعللها يقول: إنه الوصف المقتضي إلى ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا، وفيه نظر أيضا، فإنهم نصوا على أن القتل العمد العدوان مناسب لمشروعية القصاص مع أن هذا الفعل الصادر من الجاني لا يصدق عليه أنه وصف ملائم لأفعال العقلاء عادة، ولا أنه وصف جالب للنفع أو دافع للضرر، بل الجالب أو الدافع إنما هو المشروعية وكذلك الردة والإسكار والسرقة والغصب والزنا، وقال المصنف: المناسب هو ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا، فجعل المقاصد أنفسها أوصافا مناسبة على خلاف اختيار الإمام وهو فاسد، ألا ترى أن مشروعية القصاص مثلا جالبة أو دافعة كما بيناه، وليست هي الوصف المناسب؛ لأن المناسب من أقسام العلل فيكون هو القتل في مثالنا لا المشروعية؛ لأنها معلولة لا علة، وكذلك الردة وغيرها مما قلناه. قوله: "وهو حقيقي ... إلى آخره" يعني: أن المناسب إما حقيقي أو إقناعي؛ لأن مناسبته إن كانت بحيث لا يزول بالتأمل فيه فهو الحقيقي وإلا فهو إقناعي؛ والحقيقي إما دنيوي بأن يكون لمصلحة تتعلق بالدنيا, أو أخروي بأن يكون لمصلحة تتعلق بالآخرة, والدنيوي إما ضروري أو مصلحي أو

الصفحة 325