كتاب أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله

التكليف» لا يعني مؤاخذته على كل ما أكره عليه.
ولَمَّا رأى بعض العلماء أن الله قد عفا عن المكره إلا في الحالات التي قدم فيها صيانة نفسه على صيانة غيره من المسلمين، قال: إن المكره غير مكلف، وهو وإن خالف الجمهور في ذلك من حيث اللفظ لكنه موافق لهم في المعنى، غير أنه نظر إلى آثار التكليف ـ وأهمها المؤاخذة الأخروية ـ فوجدها منتفية فنفى التكليف.
والقول بعدم تكليف المكره هو الأليق بمذهب السلف، والأقرب إلى ظاهر القرآن والسنة؛ لأن الله تعالى لم يؤاخذ من نطق بكلمة الكفر مكرها فقال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}. [النحل١٠٦] والرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (أخرجه ابن ماجه).
والتكليف مع الإكراه فيه حرج شديد ومشقة عظيمة، والله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة ٢٨٦]، ويقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج ٧٨] ويقول: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة ٦].
والإجماع الذي حكوه على أن الإكراه لا يبيح قتل المعصوم والزنى، يحمل على أنه لم يسقط عنه الإثم؛ لأنه في القتل قدم مصلحة نفسه على مصلحة أخيه المسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (متفق عليه من حديث أنس). وفي مسألة الزنى لأن القرينة تدل على أنه أقدم على الزنى لشهوة وإلا لما استطاع أن يجامع. وأما المرأة المغتصبة غير المطاوعة فهي غير مكلفة على الصحيح.

الصفحة 92