كتاب شرح سنن النسائي المسمى شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية بكشف أسرار السنن الصغرى النسائية (اسم الجزء: 1)

إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثمَّ سائري
والباء في قوله: "برؤوسكم" قيل: إنها مؤكدة زائدة، والمعنى وامسحوا رؤوسكم، وقيل: دخولها هنا كدخولها في التيمم في قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} أي أنها في ذلك المحل دلت على التعميم، ولم يختلفوا في وجوب تعميم الوجه وذلك يرد قول من قال إنها للتبعيض، وحينئذ يقوى كونها للإلصاق، أو الدلالة على ممسوح به، وقيل: إنما دخلت لتفيد معنى، وهو أن المسح لغة لا يقتضي ممسوحًا به، والغسل لغة يقتضي مغسولًا به، فلو قال: امسحوا رؤوسكم؛ لأجزأ إمرار اليد من غير ماء، ولا غيره كما هو الأصل في المسح، فدخلت الباء لتفيد ممسوحًا به، وهو الماء فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء، وذلك في اللغة يحتمل وجهين: إما أن يكون على القلب؛ كما في قول خفاف بن ندبة السلمي يصف شفتي امرأةٍ فشبهها بنواحي ريش الحمام:
كنواح ريش حمامةٍ نجديةٍ ... ومسحت باللثتين عصف الإِثمد
فإن الممسوح هو اللثتان، والممسوح به عصف الإِثمد، فتقدير البيت: ومسحت بعصف الإِثمد اللثتين، وإما على الاشتراك في الفعل، والتساوي في نسبته كما قال الأخطل:
مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت ... نجران أو بلغت سوآتهم هجر
وجوّز بعضهم أن تكون للتبعيض، قال ابن العربي -رحمه الله-: (ظن بعض الشافعية، وبعض حشوية النحوية أن الباء للتبعيض، إلى أن قال: ولا يجوز لمن شد أطرافًا من العربية أن يظن ذلك، وإن كانت ترد في موضع لا يحتاج إليها لربط الفعل بالاسم فليس ذلك إلا لمعنى تقول: مررت بزيد؛ فهذا لإلصاق الفعل بالاسم، ثم تقول: مررت زيدًا، فيبقى المعنى، وفي ذلك خلاف) اهـ.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في ذكر أحكام الآية ما يتعلق بالمسألة في المسح لكل الرأس، أو بعضه.
وذكر ابن هشام في المغني: أن من معاني الباء التبعيض عند الأصمعي والفارسي، والقتبي، وابن مالك، ونسب إلى الكوفيين، وذكر أنهم جعلوا منه {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} أي منها، ومنه قول الهذلي:
شربن بماءٍ البحر ثم ترفعت ... متى لججٍ خضر لهن نتيج

الصفحة 26