كتاب سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (اسم الجزء: 4)

ثم أتى إلى غطفان. فقال: يا معشر غطفان، قد عرفتم أني رجل منكم فاكتموا عليّ، واعلموا أن بني قريظة بعثوا إلى محمد- وقال لهم مثل ما قال لأبي سفيان- فاحذروا أن تدفعوا إليهم أحدا من رجالكم. فصدّقوه.
وأرسلت يهود عزّال- وهو بعين مهملة فزاي مشددة- ابن سموأل إلى قريش: إنّ ثواءكم قد طال، ولم تصنعوا شيئا، فليس الذي تصنعون برأي، إنكم لو وعدتمونا يوما تزحفون فيه إلى محمد، فتأتون من وجه، وتأتي غطفان من وجه، ونخرج نحن من وجه آخر، لم يفلت محمد من بعضنا، ولكن لا نخرج معكم حتى ترسلوا إلينا برهان من أشرافكم، ليكونوا عندنا، فإننا نخاف إن مسّتكم الحرب أو أصابكم ما تكرهون أن تشمّروا إلى بلادكم، وتتركونا في عقر دارنا، وقد نابذنا محمدا بالعداوة. فلما جاء الرسول لم يرجع إليه أبو سفيان بشيء، وقال- بعد أن ذهب-: هذا ما قال نعيم.
وخرج نعيم إلى بني قريظة، فقال: يا معشر بني قريظة بينا أنا عند أبي سفيان إذ جاء رسولكم إليهم يطلب منه الرّهان، فلم يرد عليه شيئا، فلما ولى قال: لو طلبوا منّي عناقا ما رهنتها، أنا أرهنهم سراة أصحابي يدفعونهم إلى محمد يقتلهم، فارتأوا رأيكم، ولا تقاتلوا مع أبي سفيان وأصحابه حتى تأخذوا الرّهن، فإنكم إن لم تقاتلوا محمدا، وانصرف أبو سفيان، تكونوا على مواعدتكم الأولى. قالوا: نرجو ذلك يا نعيم. وقال كعب بن أسد: أنا والله لا أقاتله، لقد كنت لهذا كارها، ولكن حييّا رجل مشؤوم. قال الزبير بن باطا: إن انكشفت قريش وغطفان عن محمد لم يقبل منا إلا السيف، لنخرجنّ إلى محمد ولا تطلبوا رهنا من قريش، فإنها لا تعطينا رهنا أبدا، وعلى أي وجه تعطينا قريش الرّهن وعددهم أكثر من عددنا، ومعهم الكراع ولا كراع معنا؟ وهم يقدرون على الهرب، ونحن لا نقدر عليه، وهذه غطفان تطلب إلى محمد أن يعطيها بعض ثمار المدينة فأبى أن يعطيهم إلا السيف، فهم ينصرفون من غير شيء. فلم يوافق الزّبير غيره من قومه على مساعدة قريش إلا برهن.
فلما كان ليلة السبت أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل ونفرا من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخفّ والحافر، فأعدّوا للقتال حتى نناجز محمدا، ونفرغ ممّا بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم: إنّ اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، وإنّا لسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا، ثقة لنا، حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى أن ضربتكم الحرب، واشتد عليكم القتال، أن تشمّروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلادنا، فلا طاقة لنا بذلك منه.

الصفحة 385