كتاب سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (اسم الجزء: 5)

وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بتوبة الله- تعالى- علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبيّ مبشرون، وركض إليّ رجل على فرس- وعند محمد بن عمر: هو الزبير بن العوام- رضي الله عنه- قال كعب: وسعى ساع من أسلم حتى أوفى على الجبل وعند محمد بن عمر: أنه حمزة بن عمرو الأسلميّ: قال كعب: وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته، وهو حمزة الأسلمي يبشرني، نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ. واستعرت ثوبين من أبي قتادة- كما عند محمد بن عمر- فلبستهما. قال: وكان الذي بشّر هلال بن أمية بتوبته سعيد بن زيد، فما ظننت أنه يرفع رأسه حتى تخرج نفسه، أي من الجهد، فقد كان امتنع عن الطعام حتى كان يواصل الأيام صياما لا يفتر عن البكاء، وكان الذي بشر مرارة بن الربيع بتوبته سلكان بن سلامة أو سلامة بن وقش.
قال كعب: وانطلقت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون: لتهنك توبة الله- تعالى- عليك. قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني.
والله ما قام إلى رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة.
قال كعب: فلمّا سلّمت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يبرق وجهه من السرور [أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك] فقلت: يا رسول الله، أمن عندك أم من عند الله؟ قال: «لا بل من عند الله، إنكم صدقتم الله فصدقكم الله» وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- إذا سرّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك: منه، فلمّا جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي كلّه صدقة إلى الله- تعالى- وإلى رسوله- صلى الله عليه وسلم- قال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» قلت: نصفه؟ قال «لا» قلت: ثلثه؟ قال: «نعم» قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، وقلت: يا رسول الله إنما نجّاني الله- تعالى- بالصدق وإنّ من توبتي ألا أحدث إلّا صدقا ما بقيت، فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله- تعالى- في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله- تعالى- فيما بقيت، فأنزل الله- تبارك وتعالى- على رسوله- صلى الله عليه وسلم-: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ إلى قوله: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة 117، 119] فو الله ما أنعم الله على من نعمة- بعد أن هداني للإسلام- أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله تعالى قال في الذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا

الصفحة 477