كتاب البديع في نقد الشعر
وكقول أبي نواس:
قولا لهرونَ إمامِ الهدى ... عند اجتماع المجلس الحاشد:
نصيحة الفضل وإشفاقه ... أخلى له وجهك من حاسد
أنت على ما بك من قدرةٍ ... فلست مثل الفضل بالواجدِ
أوجده اللهُ، فما مثله ... لطالبٍ منهُ ولا ناشدِ
وليس على اللهِ بمستنكرٍ ... أن يجمعَ العالمَ في واحدِ
وأصل الهجاء سلب المديح، فكل ما مدح به فسلبه هجاء وضده أيضاً قد يخرجه الحاذق مخرج الحق، كما قال:
يروعكَ من سعدِ بنِ عمرو جسومها ... وتزهدُ فيها حينَ تقتلهم خبرا
فسلم له كثرة العدد وعظيم الخلق كأنه مدح وهو يهجو، لأن الكرام قليل، والقحة عما في النفس المميزة. وقول الآخر:
وإذا يسرك من تميمٍ خصلةٌ ... فلما يسوؤك من تميمٍ أكثرُ
ومن ذلك:
قومٌ إذا ما جنى جانيهمُ أمنوا ... من لؤمِ أحسابهم أن يقتلوا قودا
وأما المراثمي فلا فرق بينهما وبين المدح إلا بذكر الموت والذهاب، يقال: ذهب الجواد والجود. وبكته الخيل رديء؛ لأنها توصف بارتباطها بموته لراحتها.
ولذلك لا يقال في بكاء وما يشبهه إلا لما يعقل، كما قال الخنساء:
فقد فقدتك حرقة فاستراحت ... فليتَ الخيلَ صاحبها يراها
ومن ذلك التأسف قول الحطيئة:
فما كان بيني لو رأيتك سالماً ... وبين الغني إلا ليالٍ قلائلُ
فإن عشتُ لم أملك حياتي، وإن أمت ... فما في حياتي بعد موتكَ طائلُ
وأما الأوصاف والتشبيه فتهذيبه الصحة. كقول امرئ القيس:
الصفحة 293
304