كتاب فضائل بيت المقدس لابن المرجى المقدسي

أديت رسالة ربك، وأمضيت أمره، وإنك لقد لقيت من هؤلاء القوم عنتًا، وإنك جائع عطشان، تسيل دماؤك على جسدك، فاعدل إلى منزلي، وكل واشرب واسترح واغسل ما عليك. فقال: إن الله تعالى لما أرسلني عهد إلي أن لا آكل ولا أشرب ولا أستظل حتى أرجع إلى أهلي. فقال له النبي -عليه السلام-: فإني من أهلك؛ لأني [نبيٌّ] مثلك، ولا أرى الله تعالى عني إلا القوم الذي بعثك إليهم؛ لأنهم أعداؤه، فنهاك أن تأكل من طعامهم، وتستظل عندهم، ولا أحسبه حرم عليك دخول منزلي، ولا الأكل من طعامي؛ لأني أخوك ونبيٌّ مثلك. فرجع إلى منزله، فلما وضع الطعام بين يديه، وأهوى ليأكل عن جوع شديد، أوحى الله تعالى إلى ذلك النبي الذي دعاه إلى منزله: قل له: آثرت شهوتك على أمري، ألم أعهد إليك أن لا تنزل ولا تأكل (ولا تشرب)، ولا تستظل حتى ترجع إلى قريتك، ولولا أنك أنت اجتهدت برأيك، وقلت بمبلغ علمك، لعمك العقاب، وهو أقل عذراً عندي منك؛ لأني عهدت إليه فآثر شهوته وهواه، وترك عهدي. فأخبره النبي -عليه السلام- بما أمره به، فوثب مذعورًا يرحل أتانه، لا يعقل ما هو فيه، فركبها طارداً على وجهه، فلما هبط من عقبة في جنبها غيضة افترسه سبع، وانتصب مقعيًا على قارعة الطريق يحرس أتانه ورحله، كلما أقبل إنسان زأر الأسد عليه، حتى سمع بخبره ذلك النبي -عليه السلام- فأقبل نحوه، فلما نظر إليه الأسد انصرف عنه وخلى بينه وبينه، قال: وكفنه وواراه، وانصرف بأتانه ورحله إلى أهله، فقال النبي -عليه السلام-: يا رب، عبدك هذا أدى رسالتك، وأمضى أمرك، وقد كان أدركه الجهد والبلاء، فخالف ما أردت ولم يعلم، فعاقبته بهذه العقوبة. فأوحى الله تعالى إليه: ليس هذه عقوبة، ولم أفعل ذلك لهوانه علي، ولكن هذه مغفرة ورحمة؛ لأنه خالف أمري، وكان قد قرب أجله، فكرهت له أن

الصفحة 44