كتاب المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي

ويذهب "فندريس" بعد هذا، إلى أنه لا تكاد توجد جملة -مهما كانت شائعة الاستعمال أو مبتذلة- تخلو من العناصر الانفعالية، فإنني إذا قلت "حامد يضرب عليا" بدا عليَّ أني أعبر بكل بساطة، عن علاقة بين شخصين، يجمع بينهما حدث الضرب. وهذا على الأقل كل ما يزودني به التحليل المنطقي المزعوم. ولكن الواقع أن مثل هذه الجملة، لا يمكن مطلقا أن تكون عبارة منطقية عن علاقة ما؛ إذ إني أضيف إليها دائما ألوانا انفعالية، فضرب حامد لعلي، لا يمكن أن يكون عديم الأثر بالنسبة إلي؛ إذ لو لم يكن له مساس بنفسي لما قلته. إذن فالجملة التي أنطق بها، ذات قيمة تختلف عن القيمة التي تكون لها، لو كنت قد قرأتها في كتاب من كتب التاريخ، يدور فيه الكلام عن ملك ما اسمه "حامد" وملك آخر اسمه "علي" لا يعنيني من أمرهما شيء.
ذلك لأن القصص التاريخي موضوعي دائما. وهذا هو ما يجعل التلميذ الصغير، الذي يحفظ دروسه في التاريخ عن ظهر قلب، يقبل دون تقزز على تعدد الفظائع التي ارتكبها بنو البشر في تناحرهم بعضهم مع بعض، فهي لا تحركه لأنه يراها تقع في ماض سحيق، تباعده عنه سنون طوال، وإذن فهو يتسلى بها.
وعلى العكس من ذلك، لا نستطيع أن نقرأ دون أن نحس بقشعريرة تسري في أجسامنا، خبرا لجريمة عادية وقعت أمام منزلنا، فإني في المثال المتقدم أراني لدى نطقي بالجملة، أحس في نفسي بعواطف مختلفة من الحنق، أو العقاب، أو التهديد، أو الغضب، أو الرضا، أو التشجيع أو القبول، أو الدهشة، وذلك تبعا لما إذا كان حامد وعلي ابني، أو طفلين غريبين عني، وتبعا لسنهما وقوتهما، وتبعا لميولي واتجاهاتي، وتبعا لظروف أخرى كثيرة، يمكن تصورها بسهولة.

الصفحة 141