كتاب العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام لابن العطار (اسم الجزء: 1)

الكمال، وقدَّر بعض المحدثين القبول، وهو راجع إلى ثواب الآخرة، وهو مرتبٌ على الصِّحة والكمال، وقد تَنفكُّ الصِّحة عن القبول بالنِّسبة إلى أحكام الدُّنْيَا فقط، والأعمال تُطْلَقُ على الجوارح والقلوب، قولًا كان العمل أو فعلًا، لكنَّ الأسبقَ إلى الفهم تخصيصُه بالجوارح، لكنْ في الشَّرعيات فهو يستعمل فيهما، فيقال: أعمال القلوب، وأعمال الجوارح، وخصَّص بعضهم أعمال الجوارح بما عدا القول، وهو غلط؛ لاتفاقهم على أنَّ اللِّسان جارحة، والقول عملُه، نعم يستعمل القول والعمل في معرض التَّقابل، أما أنَّ القول لا يسمى عملًا، فلا.
قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "وإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" مقتضاه أنَّ مَنْ نوى شيئًا، يحصل له، وما لم ينوه، لا يحصل له، ولهذا عظَّمُوا هذا الحديث، وجعلُوه داخلًا في ثلث العلم، أو نصفه، والمراد بالحصولِ وعدمه بالنِّسبة إلى الشَّرع، وإلَّا فالعملُ قَدْ حصل، لكنَّه غيرُ معتدٍّ به، وسياق الحديث يدل عليه بقوله: "وَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إليه".
فإِنْ قِيل: فما فائدة ذكر الثَّاني بعد الأول؟
قلنا: فائدته اشتراط تعيين المنويِّ، فمن كان عليه صلاة مقضيَّة، لا يكفيه أَنْ ينويَ الصَّلاةَ الفائتة، بل لا بدَّ أَنْ ينويَ كونها ظُهرًا أو عصرًا أو غيرهما.
ولولا اللَّفظ الثَّاني، لاقتضى الأولُ صِحة النيَّة بلا تعيين، أو أَوْهَمَ ذلك.
وكونُ هذا الحديث ثلثَ العلم، قال البيهقيُّ وغيره: معناه أَنَّ كَسْبَ العبد بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنيَّةُ أحدُ أقسامِه الثَّلاثة وأرجحُها؛ لأنَّها تكون عبادة بانفرادها، بخلاف القسمين الآخرين، ولهذا كانت نِيَّة المؤمن خيرًا من عمله؛ لأَن القول والعمل يدخلهما الفساد بالرياء ونحوه، بخلاف النيَّة (¬1)، وتدخل النيَّة في الوضوء والاغتسال والتيمم والصَّلاة وأنواعها، والزَّكاة والصيام والاعتكاف والحجِّ والطلاق والخلع والعتق والكتابة، والتدبير والإبراء والظهار
¬__________
(¬1) انظر: "السنن الصغرى" للبيهقي (ص: 20).

الصفحة 47