كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر (اسم الجزء: 73)

بعث إلي هارون فأتيته، فأخذني خصيان حتى انتهيا «1» بي إليه في بهو، فقال لهما هارون: أرفقا بالشيخ، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما مرّ بي يوم منذ ولدتني أمي أنا أنصب فيه من يومي هذا، فاتق الله يا أمير المؤمنين، واعلم أن لك مقاما بين يدي الله أنت فيه أذل من مقامي هذا بين يديك، فاتق الله في خلقه، واحفظ محمدا في أمته، وانصح نفسك في رعيتك، واعلم أن الله أخذ سطواته وانتقامه من أهل معاصيه بكم، فاضطرب على فراشه حتى وقع على مصلى بين يدي فراشه، فقلت: يا أميرالمؤمنين، هذا ذل الصفة، فكيف لو رأيت ذل المعاينة، فكادت نفسه تخرج، وكان يحيى بن خالد إلى جنبه، فقال للخصيّين: أخرجاه، فقد أبكى أمير المؤمنين.
بعث «2» هارون إلى محمد بن السماك، فقال له يحيى بن خالد: أتدري لم بعث إليك أمير المؤمنين؟ قال: لا أدري، قال له يحيى: بعث لما بلغه عنك من حسن دعائك للخاصة والعامة «3» ، فقال له ابن السماك: أما ما بلغ أمير المؤمنين عني ذلك فبستر الله الذي ستره علي، ولولا ستره لم يبق لنا ثناء، ولا التقاء على مودة، فالستر هو الذي أجلسني بين يديك يا أمير المؤمنين. إني والله ما رأيت وجها أحسن من وجهك، فلا تحرق وجهك بالنار، فبكى هارون بكاء شديدا، ثم دعا بماء فاستسقى «4» ، فأتي بقدح فيه ماء، فقال: يا أمير المؤمنين، أكلمك بكلمة قبل أن تشرب هذا الماء؟ قال: قل ما أحببت، قال: يا أمير المؤمنين، لو منعت هذه الشربة إلا بالدنيا وما فيها، أكنت تفتديها بالدنيا وما فيها حتى تصل إليك؟ قال: نعم، قال: فاشرب، بارك الله فيك. فلما فرغ من شربه قال له: يا أمير المؤمنين، أرأيت لو منعت إخراج هذه الشربة منك إلا بالدنيا وما فيها، أكنت تفتدي ذلك بالدنيا وما فيها؟ قال: نعم، قال: يا أمير المؤمنين، فما تصنع بشيء شربة ماء خير منه «5» ؟ فبكى هارون واشتد «6» بكاؤه،

الصفحة 292