كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر (اسم الجزء: 73)

فيهم واحد مجنون سأل ما أجل مجلس أمير المؤمنين عن التفوه به فيه، فقال: قل ولا تجزع، فقال: قال: كذا وكذا، قال: قل له: بعد ثلاث أحضر لينجز لك ما سألت، وأنت تتولى الاستئذان له، ودعا بخادم، وقال: امض إلى فلانة، وقل لها: حضر رجل، وذكر كذا وكذا، وأجبناه إلى ما سأل، فكوني على أهبة، ثم أدى الفضل الرسالة إليه، فانصرف وحضر في اليوم الثالث، وعرف الرشيد خبره، فقال: يلقى له بحيث أرى كرسي فضة، وللجارية كرسي ذهب، وتخرج إليه، ويحضر ثلاثة أرطال، فجلس الفتى والجارية بإزائه، فحدثها، والرشيد يراهما، فقال للخادم: لم تدخل لتشتو وتصيف، فأخذ رطلا، وخرّ ساجدا وقال: إذا شئت أن تغني فغني «1» :
خليلي عوجا بارك الله فيكما «2» وإن لم تكن هند بأرضكما قصدا
وقولا لها ليس الضلال أجازنا ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا
غدا يكثر الباكون منا ومنكم وتزداد داري من دياركم بعدافغنته، وشرب الرطل، وحادثها ساعة، فاستحثه الخادم، فأخذ الرطل بيده، وقال:
غني جعلت فداك:
تكلّم منا في الوجوه عيوننا فنحن سكوت والهوى يتكلم
ونغضب أحيانا ونرضى بطرفنا وذلك فيما بيننا ليس يعلم
فغنته، وشرب الرطل الثاني، وحادثته ساعة، فاستعجله الخادم، فخرّ ساجدا يبكي، وأخذ الرطل بيده، واستودعها الله، وقام على رجليه، ودموعه تستبق استباق المطر، وقال:
إذا شئت غني:
أحسن ما كنا تفرقنا وخاننا الدهر وما خنّا
فليت ذا الدهر لنا مرة عاد لنا يوما كما كنّا
فغنته الصوت، فقلب الفتى طرفه، فبصر بدرجة في الصحن، فأمها، وتبعه الخدم، ليهدوه الطريق، ففاتهم، وصعد الدرجة وألقى نفسه إلى الأرض على رأسه، فخرّ ميتا، فقال الرشيد: عجّل الفتى، ولو لم يعجل لوهبتها له.

الصفحة 319