كتاب أسرار البلاغة فى علم البيان

فصل في تخييل بغير تعليل
وهذا نوع آخر من التخييل، وهو يرجع إلى ما مضى من تناسي التّشبيه وصرف النفس عن توهّمه، إلا أنّ ما مضى معلّل، وهذا غير معلّل.
بيان ذلك أنهم يستعيرون الصّفة المحسوسة من صفات الأشخاص للأوصاف المعقولة، ثم تراهم كأنهم قد
وجدوا تلك الصفة بعينها، وأدركوها بأعينهم على حقيقتها، وكأنّ حديث الاستعارة والقياس لم يجر منهم على بال، ولم يروه ولا طيف خيال.
ومثاله استعارتهم «العلوّ» لزيادة الرجل على غيره في الفضل والقدر والسلطان، ثم وضعهم الكلام وضع من يذكر علوا من طريق المكان. ألا ترى إلى قول أبي تمام (¬1):
[من المتقارب]
ويصعد حتّى يظنّ الجهول … بأنّ له حاجة في السماء
فلولا قصده أن ينسي الشبيه ويرفعه بجهده، ويصمّم على إنكاره وجحده، فيجعله صاعدا في السماء من حيث المسافة المكانية، لما كان لهذا الكلام وجه.
ومن أبلغ ما يكون في هذا المعنى قول ابن الرومي (¬2): [من الخفيف]
أعلم الناس بالنجوم بنو نو … بخت علما لم يأتهم بالحساب
بل بأن شاهدوا السّماء سموّا … بترقّ في المكرمات الصّعاب
مبلغ لم يكن ليبلغه الطا … لب إلّا بتلكم الأسباب
¬__________
(¬1) البيت لأبي تمام، وفي الديوان رواية أخرى ص 335:
ويصعد حتى يظنّ الجهول … أن له منزلا في السماء
وأورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص 138 وعزاه لأبي تمام، والرازي في نهاية الإيجاز ص 252، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص 225، والقزويني في الإيضاح ص 434.
وراجع مفتاح العلوم بتحقيقنا ص 494.
(¬2) في البيت الثاني خطأ «بل بأن شاهدوا السما سمرا» وصوابه «بل بأن شاهدوا السماء سموا» أورده بدر الدين بن مالك في المصباح ص 139 وعزاه لابن الرومي. وآل نوبخت أسرة اشتغلت بعلم الفلك والنجوم في العصر العباسي.

الصفحة 216