كتاب جامع بيان العلم وفضله - ت السعدني ط العلمية

ويجبن عنه تورعا بزعمه أن غيره كان أدرى بطريق الاستنباط منه، فلذلك عوّل على حفظ قوله، ثم إن الأيام تضطره إلى الاستنباط مع جهله بالأصول، فجعل الرأي أصلا واستنبط عليه. وقد تقدم في كتبانا هذا كيف وجه القول واجتهاد الرأي على الأصول عندما ينزل العلماء من النوازل في أحكامهم ملخصا في أبواب مهذبة، ومن تدبرها وفهمها وعمل عليها نال حظه ووفق لرشده إن شاء اللّه. واعلم أنه لم تكن مناظرة بين اثنين أو جماعة من السلف إلا لتفهم وجه الصواب فيصار إليه ويعرف أصل القول وعلته، فيجري عليه أمثلته ونظائره، وعلى هذا الناس في كل بلد إلا عندنا كما شاء ربنا، وعند من سلك سبيلنا من أهل المغرب فإنهم لا يقيمون علة ولا يعرفون للقول وجها، وحسب أحدهم أن يقول: فيها رواية لفلان ورواية لفلان، ومن خالف عندهم الرواية التي لا يقف على معناها وأصلها وصحة وجهها فكأنه قد نص الكتاب وثابت السنة، ويجيزون حمل الروايات المتضارة في الحلال والحرام، وذلك خلاف أصل مالك، وكم لهم من خلاف أصول خلاف مذهبهم مما لو ذكرنا لطال الكتاب بذكره، ولتقصيرهم عن علم أصول مذهبهم صار أحدهم إذا لقي مخالفا ممن يقول بقول أبي حنيفة أو الشافعي، أو داود بن علي، أو غيرهم من الفقهاء، وخالفه في أصول قوله بقي متحيرا ولم يكن عنده أكثر من حكاية قول صاحبه، فقال: هكذا قال فلان، وهكذا روينا، ولجأ إلى أن يذكر فضل مالك ومنزلته، فإن عارضه الآخر يذكر فضائل إمامه صار في المثل كما قال الأول:
شكو نا إليهم خراب العراق ... فعابوا علينا شحوم البقر
فكانوا كما قيل فيما مضى ... أريها السهما وتريني القمر
وفي مثل ذلك يقول منذر بن سعيد - رحمه اللّه:
غديرى من قول يقولون كلما ... طلبت دليلا هكذا قال مالك
وإن عدت قالوا هكذا قال ... أشهب وقد كان لا يخفى عليه المسالك
فإن زدت قالوا سحنون مثله ... ولمن لم يقل ما قال فهو آفك
فإن قلت قال اللّه ضجوا ... وأكثروا وقالوا جميعا أنت قرن مماحك
وإن قلت قد قال الرسول فقولهم ... إئت مالكا في ترك ذاك المالك

الصفحة 460