كتاب بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخبار للكلاباذي

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: §«إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ، لَا يُؤْبَهُ بِهِ، الَّذِينَ إِذَا اسْتَأْذَنُوا عَلَى الْأُمَرَاءِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، حَوَائِجُ أَحَدِهِمْ تَلَجْلَجُ فِي صَدْرِهِ، لَوْ قُسِمَ نُورُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَهُمْ لَوَسِعَهُمْ» حَدَّثَنَاهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَارِثِيُّ قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ الْبَلْخِيُّ قَالَ: ح قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: ح جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. أَخْبَرَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مُلُوكًا وَعَلِيٌّ مِنْ أَكْبَرِهِمْ مُلُوكًا، وَإِنَّهُ مِمَّنْ لَهُ مُلْكٌ فِي الْجَنَّةِ كُلِّهَا كَمَا كَانَ لِذِي الْقَرْنَيْنِ مُلْكٌ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا» ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74] ، أَخْبَرَ أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ يَنْزِلُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ، وَسَائِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَهُمْ دَرَجَاتٌ مَعْلُومَةٌ وَمَسَاكِنُ مَعْرُوفَةٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ لَهُ كَذَا، وَمَنْ لَهُ كَذَا» فَأَخْبَرَ أَنَّ مُلْكَ عَلِيٍّ مِنْهَا وَفِيهَا لَيْسَ بِمُلْكٍ مُحَدَّدٍ وَمُنْتَهٍ ـ وَلَكِنَّ مُلْكَهُ فِي جَمِيعِ الْجَنَّةِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ. وَقَوْلُهُ: «إِنَّ لَكَ كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ» : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِنَّكَ مُتَبَرِّئٌ مِنْ حَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أُمُورِكَ مُسْتَظْهِرٌ بِاللَّهِ دُونَ حَوْلِكَ وَقُوُّتِكَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ كَنْزَ الْجَنَّةِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِبَاعٍ الْخَطِيبُ، قَالَ: ح مُحَمَّدُ بْنُ الضَّوْءِ قَالَ: ح عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: ح أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ كَعْبٍ الْعَدَوِيِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: §«هَلْ لَكَ فِي كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» -[287]- فَفِيهِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ فَقَدِ اتَّخَذَ كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: " أَكْثِرُوا مِنْ غِرَاسِ الْجَنَّةِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ "، يَعْنِي قُولُوا ذَلِكَ عَلَى تَحْقِيقٍ مِنْ قُلُوبِكُمْ، وَصِدْقٍ مِنْ نُفُوسِكُمْ، أَيْ تَبَرَّءُوا مِنْ حَوْلِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ فَيَكُونَ لَكُمْ فِي الْجَنَّةِ كُنُوزًا، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّنْ تَبَرَّأَ مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، فَلَهُ فِي الْجَنَّةِ كَنْزٌ. وَمَعْنًى آخَرُ: أَنَّ التَّبَرِّيَ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَالِاسْتِظْهَارَ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْأَشْيَاءِ مِنْ كَنْزٍ فِي الْجَنَّةِ، أَيْ لَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا مَنْ كَانَ لَهُ فِي الْجَنَّةِ كَنْزٌ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَهُ فِي الْجَنَّةِ كَنْزٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُوتِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ» . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُرَاعِي النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّمَا الْأُولَى لَكَ وَلَيْسَتْ لَكَ الثَّانِيَةُ» هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِيمَنْ لَا يَتَعَمَّدُ النَّظَرَ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَتِ النَّظْرَةُ الْأُولَى عَلَى قَصْدٍ وَتَعَمُّدٍ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ، فَلَيْسَتْ هِيَ لَهُ، بَلْ هِيَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْأُولَى، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ وَلَيْسَتْ عَلَيْهِ هِيَ الَّتِي نَهَى عَنْهُ مَنْ قَصَدَ مِنْهُ، فَذَلِكَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لِأَنَّهُ خَطَأٌ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ عَنْ أُمَّتِي» فَالنَّظْرَةُ الْأُولَى فَهِيَ نَظْرَةُ خَطَأٍ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مَتْرُوكٌ لَهُ، لَا يُؤَاخَذُ بِهَا، وَلَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ، فَإِذَا أَتْبَعَهَا أُخْرَى كَانَتِ الثَّانِيَةُ نَظْرَةَ تَعَمُّدٍ وَقَصْدٍ، وَمَنْ تَعَمَّدَ الْخَطِيئَةَ، وَقَصَدَ مِنْ تَعَمُّدٍ الْخَطِيئَةَ، وَقَصَدَ ارْتِكَابَ مَا نُهِيَ عَنْهُ، كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ لَا يَمْحُوهَا إِلَّا بِشَرَائِطِهَا مِنْ تَوْبَةٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ، أَوْ تَأْدِيبٍ، وَلِلَّهِ فِيهَا الْمَشِيئَةُ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا وَالتَّجَاوُزِ وَهُوَ جَلَّ وَعَزَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَفُوٌّ حَلِيمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ

الصفحة 286