كتاب معاني الأخبار للكلاباذي

@ 334@الآخرة بعين إيقانه ، ومن نظر إلى الآخرة شغل عن الدنيا ، صارت مرفوعة منه متروكة عنه ، قال حارثة : عزفت نفسي عن الدنيا فكأني انظر إلى أهل الجنة إلى آخر الحديث.
|فمن اغناه الله تعالى عن الدنيا بالزهد فيها ، والرغبة عنها صارت الآخرة همه ، لأن الإنسان حريص ، والنفس راغبة أما ترغب إلى الدنيا أو إلى الآخرة فإذا حجبت عن الدنيا بالعزوف عنها ، والاستغناء منها افتقرت إلى الآخرة ، ورغبت فيها.
|قيل لحمد بن عبد العزيز لما افضت الخلافة إليه : قد زهدت في الدنيا أمير المؤمنين ؟ فقال : إن أنفسنا تواقة تاقت إلى الدنيا ، فلما اصابتها تاقت إلى الآخرة.
|فمن جعل الله الغناء في قلبه وجعل له يسره بالاستغناء عن الدنيا وحطامها صارت همته الآخرة وما قدر له من الدنيا ، والرفق فيها ، يأتيه في راحة من بدنه وفراغ من سره ، وهذا معنى قوله راغمة أي يأتيه من غير طلب لها لأنها قل ما يؤتي طلابها إلا بجهد وطلب لها حثيث فإذا جاءت من غير طلب فكأنها جاءت راغمة صاغرة ذليلة ، ومن جعل الله فقره إلى الدنيا وحجبه عن الآخرة بميله إلى الدنيا صارت الدنيا نصب عينيه ، والدنيا فقر كلها لأن حاجة الراغب فيها لا تقتضي فهي العطاش كلما ازداد شرابا ازداد عطشا ، فمن كانت الدنيا نصب عينيه صار الفقر بين عينيه ، وفقر سره واختلفت طرقه ، وتشتت همته ، وتعب بدنه ، وشرهت نفسه ، وازدادت الدنيا عنه بعدا لأنه لا يأتيه منها إلا المقدور ، والمقدور منها لا يغنيه ، كأنه يقول : من كانت الآخرة همه هو الذي جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله ، ومن كانت الدنيا همه هو الذي جعل الله فقره بين عينيه ، وفرق عليه شمله ، وكل لا يفوته مقدوره من الدنيا . نبه صلى الله عليه وسلم على محض العبودية ، كأنه يقول : من اهمته الآخرة فلير فضل الله عليه في وضع الغناء في قلبه حتى رفض الدنيا ، واقبل على الآخرة ، ومن اهمته الدنيا فليفتقر إلى الله بالدعاء إزالة الفقر من بين عينيه ، والحرص من قلبه ، والتعب من بدنه ، والشغل من قلبه.
|فكأنه صلى الله عليه وسلم دل على الافتقار إلى الله في الأحوال كلها فيما يرضي بالحمد له ، ورؤية الفضل من عنده ، والرعبة إليه في الثبات عليه فقد قال {ولدينا مزيد} [ق : 35] وقال : لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم : 7].

الصفحة 334