كتاب بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخبار للكلاباذي

افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ لِيَطَّهْرُوا بِهَا مِنْ أَدْنَاسِ الذُّنُوبِ، وَيَتَنَظَّفُوا مِنْ أَرْجَاسِ الْعُيُوبِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ، وَقَدْ قَالَ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، وَقَالَ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] فَإِذَا أَتَوْا بِهَذِهِ الْفَرَائِضِ تَطَهَّرُوا فَصُلُحُوا لِدَارِ الطَّهَارَةِ وَقُرْبَةِ الْقُدُّوسِ. وَقَوْلُهُ «وَلَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» لَمَّا عَلِمَ الْمُؤْمِنُ الْوَجْهَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا لِطَهَارَتِهِ، وَالْعَمَلَ الَّذِي هُوَ عَلَامَةُ مَنْ قَرَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَهُوَ أَدَاءُ فَرَائِضِهِ، أَدَّى فَرَائِضَهُ بَاذِلًا فِيهَا مَجْهُودَهُ، وَكَانَتِ الْفَرَائِضُ فِي أَوْقَاتٍ مَعْدُودَةٍ تُسَارِعُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا إِلَى أَمْثَالِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ وَأَشْبَاهِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ طَلَبًا لِازْدِيَادٍ مِنَ السَّبَبِ الْمُقَرِّبِ إِلَيْهِ، وَالسِّمَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، فَزَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّةً إِلَى تَقْرِيبِهِ مِنْهُ كَمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تعَبُّدًا فِي حَالِ الْحُرِيَّةِ مِنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ فِي أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ، فَإِنَّ مَثَلَ الْعَبْدِ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ مَثْلُ الْمُكَاتَبِ، كَاتَبَهُ مَوْلَاهُ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ نُجُومًا، فَإِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ عَتَقَ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ، أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فُرُوضًا مَحْدُودَةً، وَأَلْزَمَهُ أُمُورًا مَحْدُودَةً مُؤَقَّتَةً، فَإِذَا أَدَّاهَا خَرَجَ مِنْ رِقِّهَا، فَهُوَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ وَقْتٌ آخَرُ عَتِيقٌ فِي عَمَلِهِ، وَإِلَى أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ فَرْضٌ ثَانٍ حُرٌّ، فَمَنْ تَعَبَّدَ فِي حَالِ الْحُرِّيَّةِ شَوْقًا إِلَى مَوْلَاهُ اسْتَحَقَّ الْمَحَبَّةَ، كَمَا أَنَّ مَنْ تَعَبَّدَ فِي حَالِ الرِّقِّ اسْتَوْجَبَ الْقُرْبَةَ. وَقَوْلُهُ: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا» إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَحْدَثَ فِيهِ حُبًّا لِلَّهِ، فَيُحَبُّ اللَّهَ كَمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] ، وَقَالَ تَعَالَى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] فَالْمَحْبُوبُ مُحِبٌّ، وَالْمُحِبُّ مُنْخَلِعٌ مِنْ جَمِيعِ شَهَوَاتِهِ، خَارِجٌ مِنْ جَمِيعِ صِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَى الْمُحِبِّ أَفْنَتْهُ عَنْهُ، وَسَلَبَتْهُ عَنْ صِفَاتِهِ، وَاصْطَفَتْهُ مِنْ نُعُوتِهِ فَأَصَمَّهُ وَأَعْمَاهُ، وَعَنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ بِهِ أَبْلَاهُ،
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «§مِنْ حُبِّكَ الشَيْءَ مَا يُعْمِي، وَمَا يُصِمُّ» حَدَّثَنَاهُ حَاتِمُ بْنُ عَقِيلٍ، قَالَ: ح يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ح الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: ح ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[381]- فَالْمُحِبُّ يُصِمُّ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَيُعْمِي عَمَّا سِوَى الْمَحْبُوبِ الْأَبْصَارَ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْكِبَارِ:
[البحر البسيط]
أَصَمَّنِي الْحُبُّ إِلَّا عَنْ تَسَاوُدِهِ فَمَنْ ... رَأَى حُبَّ حُبٍّ يُورِثُ الصَّمَمَا
وَكُفَّ طَرْفِيَ إِلَّا عَنْ وِعَايَتِهِ ... وَالْحُبُّ يُعْمِي وَفِيهِ الْقَتْلُ إِنْ كُتِمَا
وَقِيلَ لِقَيْسٍ الْمَجْنُونِ: أَتُحِبُّ لَيْلَى؟ فَقَالَ: لَا، قِيلَ: لِمَ؟ قَالَ: إِنَّ الْمَحَبَّةَ ذَرِيعَةُ الْوَصْلَةِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْوَصْلَةُ سَقَطَتِ الذَّرِيعَةُ، فَأَنَا لَيْلَى، وَلَيْلَى أَنَا. قَالَ الشَّيْخُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَنَا أَحْكِي لَكَ عَنِّي عَجَبًا فِي رُؤْيَا رَأَيْتُهَا، رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ امْرَأَةً رَقِيقَةً مَمْشُوقَةً، عَلَيْهَا مَلَاحَةٌ، وَلَهَا شَعْرٌ مَا رَأَيْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مِثْلَهُ طُولًا وَغِلْظًا وَسَوَادًا، فَخُيِّلَ لِي أَنَّهَا لَيْلَى، وَهِيَ تُنْشِدُ أَشْعَارًا، فَكُنْتُ حَفِظْتُ مِنْهَا أَبْيَاتًا ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، فَقُلْتُ لَهَا وَعَزَمْتُ عَلَيْهَا: أَخْبِرِينِي عَنْ قَيْسٍ، فَقَالَتْ: كَانَ عُنْوَانَ حُبِّي وَكُنْتُ مَعْنَاهُ الَّذِي قَامَ بِهِ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُ حَالٌ يُوصَفُ، وَلَا كَانَتْ لَهُ صِفَةٌ تُعْرَفُ، فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ حَفِظْتُ مِنْهُ هَذَا. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ أَحْوَالَ الْمُحِبِّ، فَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى صَرَفَهُ عَنِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ بِهِ عَلَيْهِ، فَأَحَبَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وَالْمُحْدَثُ لَا يُطِيقُ تَحَمُّلَ أَعْبَاءِ الْمَحَبَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُفْنِيهِ، فَإِذَا أَفْنَتْهُ مَحَبَّةُ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ أَنْشَأَهُ اللَّهُ لِمَحَبَّتِهِ لَهُ خَلْقًا جَدِيدًا، فَأَفَادَهُ سَمْعًا بَدَلَ سَمْعِهِ، وَبَصَرًا بَدَلَ بَصَرِهِ، وَيَدًا بَدَلَ يَدِهِ، وَأَيَادِيَ أَقْوَى مِنْ أَيْدِهِ، فَلَا يُبْصِرُ إِلَّا رَبَّهُ، وَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا يَبْطِشُ إِلَّا لَهُ، وَلَا يَقْوَى إِلَّا فِيهِ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: «يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ، وَيَسْتَنْصِحُنِي فَأَنْصَحُ لَهُ» ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ لَهُ مَوْلًى، وَلَا وَلِيًّا إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَرَى فِي الدَّارَيْنِ لَهُ غَيْرَهُ، فَمَنْ يَدْعُو سِوَاهُ وَمَنْ يُجِيبُهُ إِلَّا هُوَ، إِذْ لَيْسَ عِنْدَهُ مُجِيبًا لَهُ إِلَّا رَبُّهُ، وَلَا مَدْعُوًّا إِلَّا مَحْبُوبُهُ. وَقَوْلُهُ: «يَسْتَنْصِحُنِي فَأَنْصَحُ لَهُ» ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ عَنْهُ اخْتِيَارَاتُهُ، وَمَاتَتْ فِيهِ شَهَوَاتُهُ، وَبَطَلَتْ مِنْهُ إِرَادَتُهُ، قَدْ ذُهِلَ عَنْ أَوْصَافِهِ، وَشُغِلَ فِي مَحَبَّةِ مَحْبُوبِهِ عَنْ نُعُوتِهِ، فَهُوَ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَصَالِحِ نَفْسِهِ، وَلَا يَتَخَيَّرُ فِي أَحْكَامِ مَوْلَاهُ , فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَقْبَلَ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْلَأْنِي كِلَاءَةَ الْوَلِيدِ» فَهَذَا اسْتِنْصَاحُهُ لَهُ، فَهُوَ تَعَالَى يُصَرِّفُهُ فِي مَشِيئَتِهِ، وَيَجْعَلُهُ فِي قَبْضَتِهِ، وَيَحُوطُهُ بِعِصْمَتِهِ، وَيُصَرِّفُهُ فِي مَحَابِّهِ، فَهَذَا نُصْحُهُ لَهُ -[382]-. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي لِمَنْ يُرِيدُ الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ فَأَصْرِفُهُ عَنْهُ كَرَاهَةَ أَنْ يَدْخُلَهُ عُجْبٌ فَيُفْسِدَهُ ذَلِكَ» هَذَا مَنْ نَصَحْتُ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِي شَهَوَاتِ نَفْسِهِ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِحُظُوظِهَا، وَإِنَّمَا شُغْلُهُ بِمَوْلَاهُ، وَتَصَرُّفُهُ فِيمَا يَرْضَاهُ، فَهُوَ يُرِيدُ الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ عِنْدَ غَلَبَةِ الِاشْتِيَاقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَبِيبُ اللَّهِ وَمَحْبُوبُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُحِبُّهُ، وَالْمُحِبُّ يَغَارُ عَلَى مَحْبُوبِهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى غَيْرِهِ، وَيَضِنُّ بِهِ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى سِوَاهُ، فَالْعَبْدُ لِغَلَبَةِ الِاشْتِيَاقِ عَلَيْهِ يَقْصِدُ الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ بِاخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَيَصْرِفُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا اخْتَارَهُ إِلَى مَا اخْتَارَهُ لَهُ، لِئَلَّا يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا نَاظِرًا إِلَى نَفْسِهِ، أَوْ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِ، وَاجْتِهَادًا فِي عِبَادَتِهِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعُجْبَ هُوَ النَّظَرُ إِلَى نَفْسِهِ بِعَيْنِ الِاسْتِحْسَانِ، وَمَنِ اسْتَحْسَنَ شَيْئًا شُغِلَ بِهِ وَسَكَنَ إِلَيْهِ، فَهُوَ تَعَالَى يَصْرِفُهُ عَمَّا يَسْكُنُ إِلَيْهِ، وَيَشْغَلُهُ عَنْهُ، لِيَكُونَ شُغُلُهُ بِهِ، وَسُكُونُهُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى، لَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ» هَذَا أَيْضًا مِنْ نَصِيحَتِهِ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَحَبَّ الْمُؤْمِنَ لِإِيمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحَبَّهُ كَتَبَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ، وَحَبَّبَهُ إِلَيْهِ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَصْرِفُهُ عَمَّا يُخِلُّ بِإِيمَانِهِ، لِئَلَّا يَخْرُجَ فِي حُبِّهِ إِيَّاهُ شَيْءٌ، وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى طَبَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ وَأَوْصَافٍ مَتَفَاوِتَةٍ، فَمِنْهُمُ الْقَوِيُّ، وَمِنْهُمُ الضَّعِيفُ، وَمِنْهُمُ الرَّفِيقُ، وَمِنْهُمُ الْكَثِيفُ، وَمِنْهُمُ الْوَضِيعُ، وَمِنْهُمُ الشَّرِيفُ. فَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَلْبِهِ ضَعْفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَقْرَ أَغْنَاهُ، إِذْ لَوْ أَفْقَرَهُ إِيَّاهُ فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يُغْنِيهِ، فَيُقِرُّ بِهِ بِذَلِكَ مِنْهُ وَيُدْنِيهِ، فَيَصُونُهُ بِغِنَاهُ مِنْ أَنْ يَنْصَرِفَ بِحَاجَتِهِ إِلَى سِوَاهُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ خَمْسًا: غِنًى مُطْغِيًا، وَفَقْرًا مُنْسِيًا، وَهَرَمًا مُفَنِّدًا، وَمَرَضًا مُفْسِدًا , وَمَوْتًا مُجْهِزًا"، فَإِذَا كَانَ الْفَقْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ مُنْسِيًا، صَرَفَ الْحَقُّ عَمَّنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْهُ الْفَقْرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ أَنْ يَنْسَاهُ حَبِيبُهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى غَيْرِهِ قَرِيبُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَلِمَ أَنْ لَا يُصْلِحَ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ أَفْقَرَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ الْغِنَى يُطْغِيهِ، وَأَنَّ الْفَقْرَ لَا يُنْسِيهِ بَلْ يَشْغَلُ لِسَانَهُ بِذِكْرِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَقَلْبَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا صَبَّ عَلَيْهِ الْبَلَاءَ صَبًّا، وَسَحَّهُ عَلَيْهِ سَحًّا، فَإِذَا دَعَاهُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: صَوْتٌ مَعْرُوفٌ، وَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ عَبْدُكَ فُلَانٌ، اقْضِ لَهُ حَاجَتَهُ، فَيَقُولُ: دَعُوا عَبْدِي فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ، فَإِذَا قَالَ -[383]-: يَا رَبِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَبَّيْكَ عَبْدِي وَسَعْدَيْكَ، لَا تَدْعُونِي بِشَيْءٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَكَ، وَلَا تَسْأَلُنِي شَيْئًا إِلَّا أَعْطَيْتُكَ، إِمَّا أَنْ أُعَجِّلَ لَكَ مَا سَأَلْتَ، وَإِمَّا أَنْ أَدَّخِرَ لَكَ عِنْدِي أَفْضَلَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ أَدْفَعَ عَنْكَ مِنَ الْبَلَاءِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ"، وَالْفَقْرُ أَشَدُّ الْبَلَاءِ، وَأَعْظَمُ الْمِحَنِ، فَإِنَّمَا يَفْعَلُ اللَّهُ ذَلِكَ بِعَبْدِهِ الَّذِي أَحَبَّهُ لِيَدْعُوَهُ فَيَسْمَعَ صَوْتَهُ دَاعِيًا لَهُ، وَيَسْأَلَهُ وَيَرَاهُ مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ السَّقَمُ هُوَ مِنَ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ، فَيُسْقِمُ اللَّهُ تَعَالَى حَبِيبَهُ لِيَدْعُوَهُ فِي الدُّنْيَا فَيُجِيبَهُ، وَيَسْأَلُهُ فَيُعْطِيهِ، وَيَشْغَلُهُ بِهِ عَمَّا يَشْغَلُهُ عَنْهُ، وَيَصُبُّ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ صَبًّا كَمَا سَحَّ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا الْبَلَاءَ سَحًّا

الصفحة 380