كتاب تفسير الشعراوي (اسم الجزء: 4)
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون} [الأنعام: 47] .
ويقول - سبحانه -: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: 46] .
والكافر من هؤلاء يتملكه الغرور، وهو يتقلب فيأتيه عذاب الله بغتة. والعذاب يأتي مرة بغتة، ومرة أخرى جهرة. إنه يأتي بغتة حتى يكون الإنسان متوقعا له في أي لحظة ويأتي جهرة حتى يرعب الإنسان ويخيفه قبل أن يقع. ولذلك يقول الحق: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: 55] .
فالموت إن جاءهم بغتة فقد لا يشعرون بهوله إلا لحظة وقوعه، ولكن حينما يأتيهم الموت وهم ينظرون، فهم يرونه وهم في فزع ورعب.
والحق يقول من بعد ذلك: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن ... } .
والحق سبحانه وتعالى يؤرخ للإيمان تأريخا صادقا أمينا، فالقرآن لم يتحامل على أهل الكتاب لأنهم عاندوا رسول الله وواجهوا دعوته وصنعوا معه كل ما يمكن أن يحبط الدعوة ويقضي عليها.
إن القرآن يقول: في شأن بعض منهم منصفا لهم: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله} وهذا اسمه - كما قلنا - صيانة الاحتمال. فساعة يقول الحق: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله} ، ساعة ينزل هذا الكلام، فيسمعه بعض من أهل الكتاب الذين انشغلوا في أعماقهم بتصديق الرسول، ويعرضون قضية الإيمان على نفوسهم، فإذا ما كانوا كذلك ماذا يكون موقفهم وهم الذين يفكرون في أمر الإيمان بما جاء به محمد؟ إنهم عندئذ يقولون لأنفسهم: هذه مسألة في أعماقنا، فمن الذي أطلع محمداً عليها؟ إن ذلك دليل على أن محمداً لا ينطق عن الهوى، وأن الله يعلمه بما في نفوسنا مما لم يبرز إلى حيز الوجود، وما دام الحق يخبره بما لم يخرج إلى حيز الوجود فلابد أنه صادق. فإن كانت الآية قد قيلت بعد أن آمنوا فلن يكون لها هذا الوقع.
إذن فلابد أن هذا القول تبشير بأن كثيراً من أهل الكتاب يفكرون في تصديق الرسول الله في البلاغ من الله، وهم بصدد أن يؤمنوا. فقول الله ذلك يجعل العملية الإيمانية في نفوسهم مصدقة، لأنهم يقولون: إنّ الرسول الذي يقول ذلك هو مبلغ عن إله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ويقول الحق من بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ... } .
هذه الآية هي ختام سورة آل عمران. وسورة آل عمران جاءت بعد سورة البقرة. والسورتان تشتركان معاً في قضية عقدية أولى، وهي الإيمان بالله والتصديق بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبما جاء به من عند الله خاتما للرسالات ومهيمناً عليها. ولذلك تكلم الحق عن قضية الإيمان وقضية الهدى وقضية الكتاب، ثم تعرض الحق لرواسب ديانات سابقة تحولت عن منهج الله إلى أهواء البشر، فجادل في سورة البقرة اليهود، وجادل في سورة آل عمران النصارى.
وبعد ذلك عرض قضية إيمانية تتعلق بموقف المسلمين المؤمنين بالله وبتصديق رسوله في معترك الحياة، وعرض معركة من المعارك ابتلى فيها المؤمنون ابتلاءً شديداً، ثم عرض للقضية الإيمانية حين يثوب المؤمن المتخاذل إلى منهج ربه. وبعد أن ينتهي من هذه، يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} أي ما من آمنتم بما تقدم إيماناً بالله، وتصديقاً بكتابه، وتصديقاً برسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وتمحيصاً للحق مع اليهود، وتمحيصاً للحق مع أهل الكتاب جميعاً، تمحيصاً لا جدلياً نظرياً، ولكن واقعيا في معركة من أهم معارك الإسلام وهي معركة أحد، فيا من آمنتم بالله إيمانا صادقا صافيا، استمعوا إليّ يا من آمنتم بي «اصبروا» وهذا أمر، و «وَصَابِرُواْ» أمر ثان، و «رَابِطُواْ» أمر ثالث، و «واتقوا الله» أمر رابع.
إنها رابعة أوامر، والغاية من هذه الأوامر هي {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إذن فمن عشق الفلاح فعليه أن ينفذ هذه الأربعة: اصبر، صابر، رابط، اتق الله، لعلك تفلح.
والحق سبحانه وتعالى حين يعبر عن الفلاح إنما يعبر بأمر مشهود مُحس للناس جميعاً، لم يقل لك: افعل ذلك لتنجح أو لتفوز. إنما جاء بكلمة «الفلاح» . و «الفلاح» كما قلنا: مأخوذ من فلح الأرض. وفلح الأرض هو شقها لتتعرض للهواء، ولتكون سهلة هينة تحت الجذير البسيط الخارج من البذرة، فإذا فلحت الأرض بهذه المشقة حرثاً وبذراً وتعهداً بالري ماذا يحدث لك من الأرض؟ إنها تؤتيك خيراً مادياً مشهوداً ملحوظا.
إذن فقد ضرب الله المثل في المعنويات بالأمر المحُس الذي يباشره الناس جميعا، وأي فَلاَح هذا الذي يقصده الحق سبحانه وتعالى؟ إنه فلاح الدنيا
الصفحة 1970
15449