كتاب تفسير الشعراوي (اسم الجزء: 5)

ساعة يسمع إنساناً آخر يسب الدين يثور ويغضب ويتحول إلى مدافع عن دين الله، وتلك هي الفطرة الإيمانية التي فطر الله كل الناس عليها. والذي يجعل الدين لأمراً شاقاً على النفس البشرية ليس فطرة الدين، ولكنه تكليف التدين؛ لأنه أمر يدخل في الاختيار.
وقد جعل الحق التكليفات الإيمانية كلها في مناط الاختيار البشري، ولم يشا أن تكون أمراً قهرياً. ولو شاء سبحانه أن يجعل كل الناس مؤمنين لما قدر أحد على الكفر: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4]
فليس في قدرة أحد أن يتأبى على الله، ولكنه شاء أن يجعل تكاليف الإيمان مسألة اختيارية. والإنسان حر في أن يفعل تكاليف الإيمان أو لا يفعلها، وفي كلتا الحالتين سيلقى الجزاء. مثال ذلك: «اللسان» خلقه الله صالحاً أن يقول: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ، وهذا اللسان نفسه صالح لأن يقول: - والعياذ بالله - «أنا لا أؤمن بالله» .
ولا يعصى اللسان صاحبه، فقد خلقه الله مجهزاً للتعبير عن مكنونات قلب الإنسان وخاضعا لإرادة الإنسان. ومثال آخر من مصنوعاتنا نحن: جهاز التليفزيون الذي صممه البشر ليكون آلة منقادة ومسخرة لما يرسله الإنسان فيه من برامج، فإن أرسل الإنسان في جهاز التليفزيون أفلاماً وبرامج دينية وعلمية تستكشف آيات الله في الكون وتثبت قيم الإنسان على الإيمان فهذا اختيار إيماني. وإن أرسل الإنسان أفلاماً خليعة تحض على المجون والفسق فهذا اختيار يلحق الإنسان بدائرة المفسدين في الأرض.
إذن فالحق خلق الإنسان صالحاً لتطبيق تكاليف الإيمان وصالحاً للخروج عن التكليف. وحين يأمر الله عباده أن يطبقوا أو ينفذوا التكليف الإيماني فهو يعلم أن قدرة الإنسان تسع التكليف؛ لأنه العليم بعباده، ولو لم يكن باستطاعتهم تنفيذ التكليف لما كلفهم به. وكلنا نعرف الفرق بين «العباد» و «العبيد» ؛ فكل الكائنات عبيد لله، والإنسان من عبيد الله إن كان متكبراً على التكليف، وإن خرج

الصفحة 3221