كتاب تفسير الشعراوي (اسم الجزء: 5)

على التكليف فهو مسير في أمور لا يقدر على الخروج منها، فلا يستطيع أحد بإرادته أن يتوقف عن التنفس، وهو - كما نعلم - أحد العمليات التي تجري على الرغم من الإنسان.
ولا أحد يستطيع أن يتنفس عندما ينتهي أجله. كذلك لا أحد يستطيع أن يقاوم المرض إن أصابه. إذن فكِبْر الإنسان وخروجه عن طاعة الله في أشياء لا تعني أنه خارج في مطلق أموره عن الله؛ لأن الحق فعال لما يريد، فلا أحد يتحكم في بدايته حين يولد، ولا أحد يتحكم في نهايته حين يموت، وهناك أمور بين قوسَيْ الميلاد والموت ما من أحد بقادر على التحكم فيها، وإرادة الاختيار إنما توجد في بعض الأمور فقط. أما كل ما عدا ذلك فهو قهري، وكلنا عبيد لله في ذلك. لكن الحق تعالى أعطى لنا الاختيار في بقية أمور الحياة.
والذكي حقاً هو من يسأل ربه: لقد خلقتني يارب مختاراً.
وماذا تحب أنت أن أفعل؟ هنا يجد الإنسان نفسه أمام أوامر الله ونواهيه وأمام المنهج بمطلوباته، هذا المنهج الذي يوضح للمؤمن ما الذي يمكن أن يفعله وما الذي يمكن أن يتجنبه. ويقول المؤمن: إنني أخرج من اختياري إلى مرادك يارب. والعبد الذي يتنازل عن اختياره إلى مراد خالقه هو واحد من العباد الذين وصفهم الحق بأنهم عباد الرحمن.
ونرى في حياتنا العادية نموذجا لما يحدث بين رب الأسرة وأفرادها، فرب الأسرة يقول لأبنائه: أنتم تريدون التنزه، فأي مكان تحبون الذهاب إليه؟
يجيب أحد أفراد الأسرة: لنذهب إلى المكان الفلاني. ويجيب آخر: أنت حر في أن تصحبنا إلى أي مكان تريد، المهم فقط أن تكون معنا. ومن المؤكد أن الذي يقول مثل هذا القول لرب الأسرة ينال منزلة رفيعة في قلبه. فإذا كان هذا يحدث بين إنسان وإنسان مثله فما بالنا بالاستحسان الذي يناله العبد حين يقول ذلك لخالقه الأكرم؟ لا بد أن ينال منزلة راقية؛ لأنه قد خرج من دائرة العبيد إلى دائرة العباد الذين قال عنهم الحق: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً

الصفحة 3222