كتاب موسوعة فقه القلوب (اسم الجزء: 3)

تدل على أن الفطرة والعقل والحواس والبصائر لا تعصم من الضلال، ولا تهدي إلى يقين، ولا تصبر على ضغط الشهوات ما لم تساندها العقيدة، وما لم يضبطها الدين.
فالله جل جلاله إنما يرسل رسله رحمة بعباده، فهو الغني الذي له ما في السموات وما في الأرض، فهو غني عنهم، وعن إيمانهم به، وعبادتهم له، وإذا آمنوا وأحسنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6].
كذلك تتجلى رحمته سبحانه في الإبقاء على الجيل العاصي الظالم المشرك وهو القادر على أن يهلكه، وينشئ جيلاً آخر يستخلفه كما قال سبحانه: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)} [الأنعام: 133].
فلا ينسى الناس كلهم أنهم موجودون بأمر الله، وأنهم باقون برحمة الله، وأن بقاءهم معلق بمشيئة الله، وأن ما في أيديهم من سلطان إنما خولهم الله إياه.
فما لأحد في نشأته ووجوده من يد، وما لأحد فيما أعطيه من السلطان من قدرة، وأنتم أيها الكفار لستم بمعجزين، إنكم في يد الله وقبضته، ورهن مشيئته وقدره، فلستم بمفلتين أو مستعصين، ويوم الحشر ينتظركم، وإنه لآت لا ريب فيه، ويوم ذاك لن تعجزوا القوي المتين: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)} [الأنعام: 134].
وسنة الله عزَّ وجلَّ مع الناس حين تجيئهم الرسالة فيكذبون أن يأخذهم أولاً بالضراء والبأساء، لعل هذا يهز قلوبهم الغافية فتستيقظ وتستجيب، ولعل المصيبة إذا أصابتهم أخضعت نفوسهم فتضرعوا إلى الله، واستكانوا للحق فإذا لم تهزهم يد البأساء، وكلهم الله إلى الرخاء وهو أشد فتنة من البأساء، حتى تلتبس عليهم سنة الله ولا ينتبهوا لها، ثم يأخذهم بعد ذلك بغتة وهم لا يشعرون كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ

الصفحة 2123