كتاب موسوعة فقه القلوب (اسم الجزء: 3)

مجتمعهم، ولذلك لم ينزل الله في تلك الفترة تنظيمات وشرائع وشعائر، وإنما أنزل لهم أوامر التوحيد والإيمان وحسن الأخلاق.
ولما اطمأنت قلوبهم بالإيمان، وسلموا أنفسهم لله، فلا يختارون إلا ما اختار الله وأمر به، حينذاك نزلت الشرائع والشعائر في المدينة متوالية كالمطر في جميع شعب الحياة، وفي جميع الأوقات والأحوال، فقبلوها وفرحوا بها وقالوا سمعنا وأطعنا.
والله حكيم عليم، فحين يتعلق الأمر أو النهي بالتوحيد والشرك، أو بالإيمان والكفر، فإن الله يقضي فيه قضاءً حاسماً منذ اللحظة الأولى، ويمضي أمره في ضربة حازمة جازمة صريحة لا غموض فيها، لا تردد فيها ولا تلفت، ولا مجاملة ولا مساومة، ولا تأجيل فيها ولا تأخير، فمن أول يوم قال الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} [الكافرون: 1، 2].
وعندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة أو تقليد أو سلوك، أو وضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به، ويأخذ الأمر باليسر والرفق والتدرج، ويهيئ الفرصة والظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة عن قناعة كمسألة الرق، ومسألة تحريم الخمر والميسر، فقد كان الأمر أمر عادة وإلف، والعادة تحتاج إلى علاج لقلعها من النفوس، والعلاج يحتاج إلى وقت.
فبدأ الله عزَّ وجلَّ بتحريك الوجدان الديني في نفوس المسلمين بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، وفي هذا إيحاء بأن تركه هو الأولى.
ثم نهاهم عن أداء الصلاة وهم سكارى، وفي هذا تضييق لوقت شرب الخمر.
فلما تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر، مقروناً بالتنفير عنه، فلما اطمأنت القلوب انقادت الجوارح وأطاعت، وكسرت دنان الخمر امتثالاً لأوامر الله عزَّ وجلَّ بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ

الصفحة 2735