كتاب موسوعة فقه القلوب (اسم الجزء: 3)

وجعلهم كالرجل الواحد في الإلفة، إذ هم متفرقون في مشارق الأرض ومغاربها، كما أنهم مختلفون من جهة العناصر واللغات، لذا شرع الله لهم الحج ليجتمعوا في صعيد واحد على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وأقطارهم كما قال سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)} [الحج: 27].
فإذا اجتمعوا من أماكنهم الشاسعة عند بيته العتيق حصل بينهم التعارف والتآلف تحت راية (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، واجتمعت كلمتهم على الحق والهدى، وتبادلوا في هذا اللقاء العظيم ما فيه مصالحهم الدينية والدنيوية، وعرف بعضهم أحوال بعض.
فنشأ من ذلك الزيارات النافعة في الدعوة والتعليم، والصدقات على الفقراء والمحتاجين، والتراحم والتناصر، والتعاون على البر والتقوى تحقيقاً لقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة: 2].
وقد شرع الله العبادات إظهاراً لحق العبودية، ولحق شكر النعمة، وفي الحج إظهار العبودية وشكر النعمة وحسن الطاعة.
أما إظهار العبودية فلأن إظهار العبودية هو إظهار التذلل للمعبود، وفي الحج ذلك؛ لأن الحاج في حال إحرامه، وطوافه وسعيه، ووقوفه بعرفات والمزدلفة ومنى، وغير ذلك من مناسك الحج يظهر عبوديته لربه بشعث حاله، وتنقله من مكان إلى مكان تنفيذاً لأوامر مولاه.
وفي حال وقوفه بعرفة بمنزلة عبد عصى مولاه، فوقف بين يديه متضرعاً منكسراً، حامداً له مثنياً عليه، مستغفراً لزلاته، مستقيلاً لعثراته.
وفي الطواف بالبيت يلازم المكان المنسوب إلى ربه، بمنزلة عبد معتكف على باب مولاه، لائذ بجنابه.
وأما شكر النعمة، فلأن العبادات بعضها بدنية، وبعضها مالية، والحج عبادة لا

الصفحة 2834