كتاب منهاج المسلم
مأذونَاً فيِ فعلهِ فقطْ، أمّا المحرمُ فلَا ينقلبُ طاعةً بحالٍ منَ الأحوالِ.
***
الفصلُ الثَّانِي: الأدبُ معَ اللَّهِ عز وجل
المسلمُ ينظر إلَى مَا للّهِ تعالَى عليه من مننٍ لَا تحصَى، ونعمٍ لَا تعد، اكتنفتهُ من ساعةٍ علوقهِ نطفةً فيِ رحم أمِّهِ، وتسايرهُ إلَى أنْ يلقَى ربهُ عز وجل فيشكرُ اللّهَ تعالَى عليهَا بلسانهِ بحمدهِ والثَّناءِ عليهِ بمَا هوَ أَهلهُ، وبجوارحهِ بتسخيرهَا فيِ طاعتهِ، فيكونُ هذَا أدبًا منهُ معَ اللّهِ سبحانهُ وتعالَى؛ إذْ ليس منَ الأدبِ في شيءٍ كفرانُ النِّعمِ، وجحودُ فضلِ المنعمِ، والتَّنكرُ لهُ ولإحسانهِ وإنعامهِ، واللّهُ سبحانهُ يقول: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] . ويقولُ سبحانهُ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] . ويقولُ عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] .
وينظرُ المسلمُ إلَى علمهِ تعالى بهِ واطِّلاعهِ علَى جميعِ أحوالهِ فيمتلئُ قلبهُ منهُ مهابةً ونفسهُ لهُ وقارًا وتعظيمًا، فيخجلُ منْ معصيتهِ، ويستحِي من مخالفتهِ، والخروجِ عنْ طاعتهِ. فيكونُ هذَا أدبًا منهُ معَ الله تعالَى، إذْ ليس منَ الأدبِ فيِ شيءٍ أنْ يجاهرَ العبدُ سيدَهُ بالمعاصِي، أوْ يقابلهُ بالقبائحِ والرذائِل وهوَ يشهدهُ وينظرُ إليهِ. قالَ تعالَى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح] . وَقَالَ {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل: 19] . وقالَ: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61] .
وينظرُ المسلمُ إليهِ تعالَى وقدْ قدرَ عليهِ، وأخذَ بناصيتهِ، وأنَّهُ لَا مفر لهُ ولَا مهربَ، ولَا منجَا ولَا ملجأَ منهُ إلاَّ إليهِ، فيفرُّ إليهِ تعالَى ويطّرحُ بينَ يديهِ، ويفوِّضُ أمرهُ إليهِ، ويتوكّلُ عليهِ، فيكونُ هذَا أدبًا معَ ربه وخالقهِ. إذْ ليس منَ الأدبِ في شيءٍ الفرارُ ممَّنْ لَا مفر منهُ، ولَا الاعتمادُ علَى منْ لَا قدرةَ لهُ، ولَا الاتِّكالُ علَى منْ لَا حول ولَا قوَّةَ لهُ. قالَ تعالَى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] . وقالَ عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50] وقالَ: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] .
وينظرُ المسلمُ إلَى إلطافِ اللّهِ تعالَى بهِ في جميعِ أمورهِ، وإلَى رحمتهِ لهُ ولسائرِ خلقهِ فيطمعُ فيِ المزيدِ منْ ذلكَ، فيتضرعُ لهُ بخالصِ الَضَّراعةِ والدُّعاءِ، ويتوسّلُ إليهِ بطيبِ القولِ وصالحِ العملِ، فيكونُ هذَا أدباً منه معَ اللّهِ مولاهُ؛ إذْ ليسَ منَ الأدبِ فيِ شيء اليأسُ منَ المزيدِ منْ
الصفحة 61