كتاب منهاج المسلم

رحمةٍ وسعتْ كلَّ شيءٍ، ولَا القنوطُ منْ إحسانٍ قدْ عمَّ البرايَا، وألطافٍ قدِ انتظمتِ الوجودَ. قالَ تعالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] . وقالَ: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19] . وقالَ: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] . وقالَ: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] .
وينظرُ المسلمُ إلَى شدَّةِ بطشِ رِّبهِ، وإلَى قوَّةِ انتقامهِ، وإلَى سرعةِ حسابهِ فيتَّقيهِ بطاعتهِ، ويتوقَّاهُ بعدمِ معصيتهِ فيكونُ هذَا أدباً منه مع اللهِ؛ إذْ ليسَ منَ الأدبِ عندَ ذوِي الألبابِ أنْ يتعرَّضَ بالمعصيةِ والظلمِ العبدُ الضَّعيفُ العاجزُ للربِّ العزيزِ القادرِ، والقويِّ القاهرِ وهوَ يقولُ: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11] . وَيَقُولُ: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12] . ويقولُ: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) } [آل عمران: 4] .
وينظرُ المسلمُ إلَى اللّهِ عز وجل عندَ معصيتهِ، والخروجِ عنْ طاعتهِ، وكأنَّ وعيدَهُ قدْ تناولهُ، وعذابَهُ قدْ نزلَ بهِ، وعقابَهُ قدْ حلَّ بساحتهِ، كمَا ينظر إليهِ تعالَى عندَ طاعتهِ، واتباعِ شرعتهِ وكأن وعدهُ قدْ صدقهُ لهُ، وكأنَّ حلَّةَ رضاهُ قدْ خلعهَا عليهِ، فيكونُ هذَا منَ المسلمِ حُسنَ ظن باللهِ، ومنَ الأدبَ حسنُ الظَّنِّ باللّهِ، إذْ ليسَ منَ الأدبِ أنْ يسيءَ المرءُ الظَّنَّ باللّهِ فيعصيهُ ويخرجَ عنْ طاعتهِ، ويظنَّ أنَّهُ غيرُ مطَّلعٍ عليهِ، ولَا مؤاخِذٍ لهُ علَى ذنبهِ، وهوَ يقولُ: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 22 - 23] . كمَا أنَّهُ ليسَ منَ الأدبِ معَ اللهِ أنْ يتَّقيهُ المرءُ ويطيعهُ ويظنَّ أنهُ غير مجازيهِ بحسنِ عملهِ، ولَا هوَ قابلٌ منهُ طاعتهَ وعبادتهُ، وهوَ عز وجل يقولُ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] . ويقولُ تعالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160] . وَيَقُولُ سبحانهُ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] .
وخلاصةُ القولِ: أنَّ شكرَ المسلمِ ربَّهُ علَى نعمهِ، وحياءهُ منهُ تعالَى عندَ الميلِ إلَى معصيتهِ، وصدق الإنابةِ إليهِ، والتَّوكّلَ عليهِ ورجاءَ رحمتهِ، والخوفَ منْ نقمتهِ وحسنَ الظَّن بهِ في إنجازِ وعدهِ، وإنفاذِ وعيدهِ فيمنْ شاءَ منْ عبادهِ، هوَ أدبهُ معَ اللهِ، وبقدرِ تمسُّكهِ بهِ ومحافظتهِ عليه تعلُو درجتهُ، ويرتفعُ مقامهُ وتسمُو مكانتهُ، وتعظمُ كرامتهُ فيصبحُ منْ أهلِ ولايةِ اللهِ ورعايتهِ، ومحطَّ رحمتهِ ومنزلَ نعمتهِ. وهذَا أقصَى مَا يطلبهُ المسلمُ ويتمنَّاهُ طولَ الحياةِ.

الصفحة 62