كتاب بين العقيدة والقيادة

أو يعطيه ما لا يستحق، فيكون قد خان أمانته. وكذلك قد يؤثره زيادة في ماله أو حفظه، بأخذ ما لا يستحقه، أو محاباة من يداهنه (1) في بعض الولايات، فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته. ثم إن المؤدِّي للأمانة مع مخالفة هواه، يثبِّته الله فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده؛ فيذل أهله ويذهب ماله. وفي ذلك
الحكاية المشهورة، أن بعض خلفاء بني العباس، سأل بعض العلماء أن يحدِّثه عما أدرك فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أَقْفَرْتَ أفواه بنيك (2) من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم. وكان في مرض موته فقال: أدخلوهم عليّ؛ فأدخلوهم، وهم بضعة عشر ذكراً، ليس فيهم بالغ. فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال: يا بَنيّ! والله ما منعتكم حقاً هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح، فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح، فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله ... قوموا عني. قال: فلقد رأيت بعض ولده، حمل على مئة فرس في سبيل الله، يعني: أعطاها لمن يغزو عليها ... ".
"قلت: هذا وقد كان خليفة المسلمين، من أقصى المشرق - بلاد الترك - إلى أقصى المغرب - بلاد الأندلس وغيرها - ومن جزائر (قبرص) (3) وثغور الشام والعواصم كطرسوس (4) ونحوها، إلى أقصى اليمن.
_______
(1) المداهنة: المصانعة والمواربة، أو المصالحة والمسالمة.
(2) أقفرت أفواه بنيك: يقصد أخليت أيديهم من المال وأفواههم من ملذات المطاعم.
(3) الأصح: قبرس.
(4) طرسوس: مدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، كانت ثغراً من ناحية بلاد الروم قريباً من طرف بلاد الشام.

الصفحة 53