كتاب آراء ابن الجوزي التربوية

واحتجوا على أن الفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ لقول الله -عز وجل-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬1) يعني خالقهن، وبقوله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} (¬2) يعني خلقني، وبقوله: {الَّذِي فَطَرَهُنَّ} (¬3) يعني خلقهن. قالوا: فالفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ وأنكروا أن يكون المولود يُفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار. قالوا: وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلقةً وطبعًا وبنيةً ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة؛ ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا. واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء -يعني سالمة- هل تحسون فيها من جدعاء، يعني مقطوعة الأذن. فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها، فيقال: هذه بحائر وهذه سوائب. يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السائمة، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلّهم" (¬4).
وقد عبّر ابن الجوزي عن هذه الفطرة المتجهة نحو الله تعالى بداهةّ بقوله: "إن الله -عز وجل- وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل، فالنفوس تعلمها ضرورة وأكثر الخلق لا يحسنون التعبير عنها؛ فإنه وضع في النفس أن المصنوع لابدّ له من صانع" (¬5).
إن أمر النشأة الأُولى غيب لم يطلع الله -عز وجل- البشر عليه؛ فإنه يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} (¬6)، وابن الجوزي يقول في ذلك "ولا يُعرف مع هذا ماهيتها ولا كيفيتها ولا جوهرها
¬__________
(¬1) سورة فاطر، الآية 1.
(¬2) سورة يس، الآية 22.
(¬3) سورة الأنبياء، الآية 56.
(¬4) القرطبي، أبو عبد الله، محمد، الأنصاري. الجامع لأحكام القرآن. (تحقيق) البردوني، أحمد، عبد العليم، الطبعة الثانية، 1372 هـ-1952 م، الجزء الرابع عشر، ص 27.
(¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي، أبو الفرج. صيد الخاطر. ص 249.
(¬6) سورة الكهف، الآية 51.

الصفحة 108