كتاب الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها

يَرْجِعُونَ} 1 معناه: فأَلقِهِ إليهم فانْظُرْ ماذا يرجعون ثم تَوَلَّ عنهم.
ومن ذلك قوله جلّ ثناؤه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} 2 تأويله: لَمَقْتُ الله إياكم في الدنيا حينَ دُعيتم إلى الإيمان فكفرتم، ومقته إياكم اليوم أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم إذا دعيتم إلى الحساب وعند ندمِكم على ما كان منكم.
ومنه قوله جلّ ثناؤه: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} 3 فأجَلٌ معطوف على كلمةٌ، التأويل: ولولا كلمة سبقت من ربّك وأجَلٌ مسمّىً -أرادَ الأجَل المضروبَ لهم وهي الساعة- لكان العذاب لازماً لهم.
باب الاعتراض:
ومن سُنن العرب أن يعترِضَ بين الكلام وتمامِهِ كلامٌ، ولا يكون هذا المعترِضُ إلا مُفيداً. ومثال ذلك أن يقولَ القائِل: "اعْمَلْ -واللهُ ناصري- ما شيئتَ" إنما أراد: اعمَل ما شيئتَ. واعتَرَضَ بينَ الكلامين ما اعترضَ قال الشّمّاخ4:
لولا ابنُ عفّانَ والسلطان مُرْتَقبٌ ... أوردتُ فجّاً من اللَّعْباءِ جُلْمُودي
قوله: "والسلطان مرتقب" معتَرِض بين قوله: "لولا ابن عفان" وقوله: "أوردتُ". ومن ذلك في كتاب الله جلّ ثناؤه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ} 5 -فعلى الله توكلتُ- {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} 5 إنما أراد: إن كانَ كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فاجمِعوا أمركم. واعترَضَ بينهما قول: فعلى الله توكلت. ومثله قول الأعشى6:
فإنْ يُمْسِ عندي الهَمُّ والشيب والعَشا ... فقد بِنَّ مِنّي والسِّلام تَفَلَّقُ
__________
1 سورة النمل، الآية: 28.
2 سورة غافر، الآية: 10.
3 سورة يونس، الآية: 19.
4 ديوانه: 122. اللعباء: موضع كثير الحجارة بحزم بني عوال. وسبخة بالبحرين. والجلمود: الصخر. والفج: الطريق الواسع بين جبلين.
5 سورة يونس، الآية: 71.
6 ديوانه: 118. والأشجع: الشجاع. الفرق: الخوف.

الصفحة 190