كتاب الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها

جعل نفسَه أعمى أصَمَّ لمّا لم ينظر ولم يسمع. وقال آخر1:
وكلامٌ بسيِّئ قد وُقِرَتْ ... أذنيَ عنه وما بي من صَمَمِ
وقريب من هذا الباب قوله جلّ وعزّ: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} 2 أي ما هم بسُكارى مشروبٍ ولكن سُكارى فَزَع وَوَلهٍ. ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: {لَا يَنْطِقُونَ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} 3 وهم قد نطقوا بقولهم: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} 4 لكنهم نطقوا بما لم يَنفع فكأنهم لم ينطِقوا.
باب الشرط:
الشرط على ضربين: شرطٌ واجبٌ إعماله كقول القائل: "إن خرج زيدٌ خرجتُ". وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} 5.
والشرط الآخر مذكور إلا أنه غيرُ مَعْزوم عليه ولا محتوم، مثل قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} 6 فقوله: {إِنْ ظَنَّا} شرط لإطلاق المراجعة. فلو كان محتوماً مفروضاً لما جاز لهما أن يتراجعا إلاّ بعد الظنّ أن يقيما حدود الله. فالشرط ها هنا كالمَجاز غير المعزوم. ومثله قوله جلّ ثناؤه: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} 7 لأن الأمر بالتذكير واقع في كلّ وقت. وللتذكير واجب نفع أو لم ينفع، فقد يكون بعض الشروط مَجازاً.
باب الكناية:
الكناية لها بابان: أحدهما أن يُكنى عن الشيء فيذكر بغير اسمه تحسيناً للفظ أو إكراماً للمذكور، وذلك كقوله جلّ ثناؤه: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ
__________
1 يقال: وقع في سي رأسه أي حكمه من الخير أو في قدر ما يغمر به رأسه.
2 سورة الحج، الآية: 2.
3 سورة المرسلات, الآية: 27.
4 سورة الأنعام، الآية: 27.
5 سورة النساء, الآية: 4.
6 سورة البقرة، الآية: 230.
7 سورة الأعلى، الآية: 9.

الصفحة 200