كتاب الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها

ومنه قولهم: "أرأيت" فهو مرّةً للاستفتاء والسؤال كقولك: "أرأيت إن صلى الإمام قاعداً كيْفَ يُصَلّي مَن خلفه?". ويَكون مرّةً للتنبيه ولا يقتضي مفعولاً، قال الله جلّ ثناؤه: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} 1. ومن الباب قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} 2 فهذا مشترك محتمل أن يكون لله جلّ ثناؤه لأنه انفرد بخَلْقِهِ، ومحتمل أن يكون: خَلقتُه وحيداً فريداً من ماله وولَده.
باب ما يسميه بعض المحدّثين الاستطراد:
وذلك أن يشبّه شيء ثُمَّ يمرّ المتكلم فِي وصف المشبّه، كقول الشاعر حين شبّه ناقتَه فقال3:
كَأَنِّي ورَحْلِيَ إذَا رُعْتُها ... عَلَى جَمْزَى جازِئٍ بالرِّمالِ
فشبّه ناقته بثور ومضى فِي وصف الثّور، ثُمَّ نقل الشبه إِلَى الحمار فقال4:
أَوْ أصْحَمٍ حامٍ جراميزه ... خزابية حَيدَى بالدِّحالِ
ومر فِي صفة العَيْر إِلَى آخر كلمته. وَقَدْ قيل: فِي كتاب الله جلّ ثناؤه من هَذَا النظم قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} 5 وَلَمْ يجر للذِّكر خبر، ثُمَّ قال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 6 وجواب: {أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} قوله جلّ ثناؤه: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} 7.
__________
1 سورة العلق، الآية: 13.
2 سورة المدثر، الآية: 7.
3 شرح أشعار الهذليين: 2/ 498 لأمية بن أبي عائذ، وبلا نسبة في شرح المفصل: 5/ 108.
ويقال: جمار جمزى أي: سريع، وأراد ثورًا.
4 شرح أشعار الهذليين: 2/ 499 لأمية بن أبي عائذ. وبلا عزو في العين: 6/ 203. وللهذلي في المقاييس: مادة "حيد" والأصحم من الصحمة: السواد إلى صفرة، وأراد الحمار، والحامي: الفحل من الإبل يضرب الضراب المعدود، ثم هو حام حمى ظهره فيترك الجراميز: قوائم الوحشي وجسده. الحزابية: الغليظ إلى القصر. وحمار حيدي: يحيد عن ظله نشاطًا. دحال: جمع دحل: وهو نقب ضيق فمه متسع أسفله.
5 سورة فصلت، الآية: 41.
6 سورة فصلت، الآية: 42.
7 سورة فصلت، الآية: 44.

الصفحة 208