كتاب أخبار النساء لابن الجوزي

وجعلت لا أكرمه بشيءٍ إلاّ قبله. وكنّا كذلك ساعةً، إذ جاء غلمانه. ثمّ تناسبنا فقال الرّجل: أتا طريح بن إسماعيل الثّقفي. فلمّا ارتحلنا كنّا كذلك في قافلةٍ لا تدرك طرقها. فقال لي طريح: ما حاجتنا إلى زحمة النّاس، وليست بنا إليهم وحشة ولا مخافة. فتأخّر بنا بعد القوم. فنزلنا إلى جانب نهرٍ مظللٍ بالشّجر فتغدّينا ثمّ قمنا إلى النّهر نستنقع فيه. فلمّا نزع ثيابه إذ آثار داهيةٍ في جنبيه يلج فيها الكف، فوقع في نفسي منه شيءٌ، فنظر إليّ وفطن وتبسّم، وقال لي: قد رأيت عجباً منك لما رأيت ما بي وأنا أحدّثك حديثه إذا سرنا العشيّة.
فلمّا ركبنا قلت له: الحديث؟ قال: نعم، قدمت من عند الوليد بن يزيد بالدّنيا وما فيها، وركبت إلى يوسف بن عمر، مع قرابتي منه، فملأ يدي. فخرجت من عنده إلى الطّائف. فلمّا اشتدّ بي الطّريق، وليس يصحبني فيه خلق، عنّ لي أعرابيٌّ على قعودٍ له، وهو حسن الحديث قد روى الشّعر، وأنشدني لنفسه. فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: لا أدري والله. قلت: فإلى أين يمّمت؟ قال: لا أدري والله. قال، فقلت: ما قصّتك؟ فقال: أنا عاشقٌ بجارية من قومي، قد أفسدت عيشتي وتلفت، فأنا أستريح بأن أنحدر في الطّريق مع منحدريه، وأصعّد مع مصعّديه. قال، فقلت له: وأين هي؟ قال: غداً تنزل بإزائها. وأخذ يحدّثني بحديثه معها.
فلمّا جئنا إلى الموضع قال لي: انزل ذلك المكان فإنّها عنده منقطعةً. فأدركتني أريحيّة الحداثة، وأخذت منه علامة ما بينهما، وقصدت حيث أشار إلي. فإذا ببيتٍ جديدٍ على الطّريق، وإذا امرأةٌ جميلةٌ حديثةٌ ظريفةٌ. فذكرته لها ووريت رسالته وأمارته. فزفرت زفرةً كادت تتفتت أضلاعها، وقالت: أو حيٌّ هو؟ قلت:

الصفحة 189