كتاب الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء
وَكَذَلِكَ قَطْعُ الْأُذُنَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَا يُؤَثِّرَانِ فِي رأي ولا عمل، ولهما ستر خفي يمكن أن يستر فلا يظهر. وأما ذهاب اليدين الذي يمنع العمل، وذهاب الرجلين الذي يذهي البطش فيمنع من ابتداء عقدها ومن استدامتها، لعجزه عما يلزم من حقوق الأمة في عمل أو نهضة. وأما ذهاب إحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ كَمَالِ التَّصَرُّفِ ولا يخرج به من الإمامة إذا طرأ عليها، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي عَقْدِهَا كَمَالُ السَّلَامَةِ وَفِي الخروج كمال النقص. فإن كان أجدع الأنف، أو سمل إحدى العينين لم يؤثر في ابتداء العقد ولا في استدامته، لأنه غير مؤثر في الحقوق. وقد قيل: يمنع من عقدها دون الاستدامة، لأنه نقص يزري فتقل به الهيبة، وبقلة الهيبة تقل الطاعة، وهذا يلزم عليه القصور. فإن حجر عليه وقهره مِنْ أَعْوَانِهِ مَنْ يَسْتَبِدُّ بِتَنْفِيذِ الْأُمُورِ مِنْ غير تظاهر بمعصية ولا مجاهرة بمشاقة لم يمنع ذلك من إمامته ولا قدح في ولايته. ثم تنظر فِي أَفْعَالِ مَنْ اسْتَوْلَى عَلَى أُمُورِهِ، فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ وَمُقْتَضَى الْعَدْلِ جَازَ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا تَنْفِيذًا لَهَا وَإِمْضَاءً لِأَحْكَامِهَا، لئلا يقف من العقود الدِّينِيَّةِ مَا يَعُودُ بِفَسَادٍ عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ خَارِجَةً عَنْ حُكْمِ الدِّينِ وَمُقْتَضَى الْعَدْلِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا، وَلَزِمَهُ أَنْ يستنصر من يقبض يده ويزيل تغلبه. فإن صار مأسوراً في يد عدو ثاهر لا يقدر على الخلاص منه منع ذلك من عَقْدِ الْإِمَامَةِ لَهُ لِعَجْزِهِ عَنْ النَّظَرِ فِي أمور المسلمين، سواء كان العدو مسلماً باغياً أو كافراً.
وللأمة فسحة في اختيار من عداه من ذوي القدرة. وقد أومأ أحمد إلى إبطال الإمامة بذلك في رواية أبي الحرث: في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك فيفتتن الناس، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم مع من تكون الجمعة؟ قال " مع من غلب". وظاهر هذا أن الثاني إذا قهر الأول وغلبه زالت إمامة الأول، لأنه قال " الجمعة مع من غلب" فاعتبر الغلبة. وقد وري عنه ما يدل على بقاء إمامته لأنه قال في رواية المروذي، وقد قيل سئل أي شيء الحجة في أن الجمعة تجب في الفتنة؟ فقال: "أمر عثمان لهم أن يصلوا؟ قيل له: فيقولون إن عثمان أمر بذلك. فقال: إنما سألوه بعد أن صلوا". وظاهر هذا أنه لم يخرج عثمان من الإمامة مع القهر لأنه اعتبر إذنه. فإن أسر بعد أن عقدت له الإمامة اسْتِنْقَاذُهُ، لِمَا أَوْجَبَتْهُ الْإِمَامَةُ مِنْ نُصْرَتِهِ، وَهُوَ على إمامته إذا كان يرجى خلاصة ويؤمل فكاكه إما بقتال أو فداء، وإن وقع الإياس منه نظرت فيمن أسره، فإن كان من المشركين خرج من الإمامة واستأنف أهل الاختيار بيعة غيره. فإن عهد بالإمامة في حال أسره، نظرت.فإن كان بعد الإياس من خلاصة لم يصح عهده لأنه لِبَقَاءِ إمَامَتِهِ، وَاسْتَقَرَّتْ إمَامَةُ وَلِيِّ عَهْدِهِ بِالْإِيَاسِ من خلاصة لزوال إمامته، فإن خلص من أسره بعد
الصفحة 22
333