كتاب سر الفصاحة

فيه ولو اقتصر بهم على وحى الألفاظ وموجز الكلام لم يقع لأكثرهم.
حتى يقال في ذكر السيف: الحسام القاطع والجزار الباتر وفي وصف الشجاع: البطل الفاتك النجد الباسل وما يجرى هذا المجري. قالوا: وربما كان ذلك الكتاب بالفتح أو الخطبة تقرأ في موقف حافل يكثر فيه لغط الناس وصخبهم فيحتاج إلى تكرار الألفاظ ليكون ما يفوت سماعه قد استدرك ما هو في معناه.
والذي عندي في هذا الباب أنهم إن كانوا يريدون بالإطالة تكرر المعاني والألفاظ الدالة عليها وخروجها في معاريض مختلفة ووجوه متباينة - وإن كان الغرض الأصل واحد - فليس هذا مما نحن بسبيله لأنه بمنزلة إعادة كلام واحد مراراً عدة فإن تلك الإعادة لا تؤثر فيه حسناً ولا قبحاً وإن كانوا يريدون أن المعنى الذي يمكن أن يعبر عنه بألفاظ يسيرة موجزة قد يحسن أن يعبر عنه بألفاظ طويلة ليكون ذلك داعياً إلى فهم العامي والبليد له وتكون الإطالة في هذا الموضع خاصة أصح وأحمد كما أن الوحي والإشارة في موضعهما أوفق وأحسن فأنا لا نسلم ذلك لأنا نذهب إلى أن المحمود من الكلام ما دل لفظه على معناه دلالة ظاهرة ولم يكن خافياً مسغلقاً كالمعنى التي وردت في شعر أبي الطيب وسنذكر ذلك مستوفى مستقصى فيما يأتي من هذا الكتاب. فإن كان الكلام الموجز لا يدل على معناه دلالة ظاهرة فهو عندنا قبيح مذموم لا من حيث كان مختصراً بل من حيث كان المعنى فيه خافياً وإن كان يدل على معناه دلالة ظاهرة إلا أنها تخفى على البليد والبعيد الذهن ومن لا يسبق خاطره إلى تصور المعنى ولو كان الكلام طويلاً لجاز أن يقع لهم الفهم فليس هذا عندنا بموجب أن يكون الإسهاب في موضع من المواضع أفضل من الإيجاز.
كما أن النقوش الغليظة في كثير من الصناعات لا تكون أحسن من النقوش الدقيقة.

الصفحة 206