كتاب سر الفصاحة
طرف من التأمل ودقيق الفكر فإن هذا عندي عيب في الكلام ونقص على ماأبينه فيما بعد وقد دللت على اختيار الإيجاز والاختصار بما تقدم ويدل عليه أيضاً أن من اختار الإطالة وسماها التذبيل إنما حجته في ذلك أنه اعتبر الكلام بالإضافة إلى المخاطب به وليس للمخاطب تأثير في حسن تأليف الكلام وقبحه ولو جاز أن يعتبر الكلام بالإضافة إلى المخاطب لجاز أن يعتبر بالإضافة إلى المخاطب به حتى يكون ذلك مؤثراً في صحته أو فساده وحسنه أو قبحه وكنا نستحسن كلام العالم العاقل وإن كان ردئ التأليف ونستقبح كلام الجاهل وإن كان في أعلى طبقات الفصاحة حتى يكون شعر أبي عثمان الجاحظ وأبي إسحاق النظام أعظم عندنا من شعر أبي حية النميري ومن جرى مجراه وهذا مما لا يدخل في مثله شبهة. وسنتكلم على من يعتبر الكلام بالإضافة إلى زمان قائلة حتى يقدم كثيراً من المتقدمين على المحدثين بمجرد تقدمهم بما نستوفي الحجة فيه ونزيل موقع الشبهة وإن كانت ضعيفة لا تخفى على من طباعه سليمة وبنيته صحيحة.
وذكروا أن جعفر بن يحيى بن خالد1 كان يقول لكتابه: إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيف فافعلواً فهذا أمر لهم بالإيجاز وتجنب الإطالة وقد كان جعفر كبيراً في هذه الصناعة.
فأما قول قيس بن خارجة الفزاري لما قيل له ما عندك في حمالات داحس. قال: عندي قرى كل نازل ورضي كل ساخط وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب آمر فيها بالتواصل وأنهى عن التقاطع. فليس
__________
1 هو جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي أبو الفضل وزير الرشيد العباسي ولد في بغداد سنة 150هـ وعندما نقم الرشيد على البرامكة قتله سنة 187هـ هو أحد الموصوفين بفصاحة اللسان وبلاغة القول قالوا في وصف حديثه: جمع الهدوء والتمهل والجزالة والحلاوة وإفهاما يفتيه عن الإعادة.
الصفحة 208
315