كتاب سر الفصاحة
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه أناقد بينا أن الكلام غير مقصود في نفسه وإنما احتيج إليه ليعبر الناس عن أغراضهم ويفهموا المعاني التي في نفوسهم فإذا كانت الألفاظ غير دالة على المعاني ولا موضحة لها فقد رفض الغرض في أصل الكلام وكان ذلك بمنزلة من يصنع سيفاً للقطع ويجعل حده كليلا ويعمل وعاء لما يريد أن يحرزه فيقصد إلى أن يجعل فيه خروفاً تذهب ما يوعن فيه. فإن هذا مما لا يعتمده عاقل ثم لا يخلو أن يكون المعبر عن غرضه بالكلام يريد إفهام ذلك المعنى أولا يريد إفهامه فإن كان يريد إفهامه فيجب أن يجتهد في بلوغ هذا الغرض بإيضاح اللفظ ما أمكنه: وإن كان لا يريد إفهامه فليدع العبارة عنه فهو أبلغ في غرضه.
وإذا كان هذا مفهوماً فالأسباب التي لأجلها يغمض الكلام على السامع سنة: اثنان منها في اللفظ بانفراده واثنان في تأليف الألفاظ بعضها مع بعض واثنان في المعنى.
فأما اللذان في اللفظ بانفراده فأحدهما أن تكون الكلمة غريبة كما ذكرنا فيما تقدم من وحشي اللغة العربية والآخر أن تكون الكلمة من الأسماء المشتركة في تلك اللغة كالصدى الذي هو العطش والطائر والصوت الحادث في بعض الأجسام.
وأما اللذان في تأليف الألفاظ فأحدهما فرط الإيجاز كبعض الكلام الذي يروى عن بقراط في علم الطب والآخر إغلاق النظم كأبيات المعاني من شعر أبي الطيب المتنبي وغيره. وكما يروى من كلام أرسطو طاليس في المنطق.
وأما اللذان في المعني فأحدهما أن يكون في نفسه دقيقاً ككثير من مسائل الكلام في اللطيف والآخر أن يحتاج في فهمه إلى مقدمات إذا
الصفحة 221
315