كتاب سر الفصاحة
وكذلك قوله:
وقد اغتدى والطير في وكناتها1 ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
لأنه أراد أن يصف الفرس بالسرعة فلم يقل إنه سريع وقال: قيد الأوابد وهي الوحوش أي أنه إذا طلبها على هذا الفرس لحقها لسرعته فكأنه قيدها له وفي هذا من المبالغة ما ليس في وصف الفرس بأنه سريع لأن الفرس قد يكون سريعاً ولا يلحق الوحش حتى تصير بمنزلة المقيدة له.
وقد استحسن الناس هذا اللفظ من امرئ القيس حتى قالوا: هو أول من قيد الأوابد.
وأصحاب صناعة البلاغة يذكورن الأرداف ولا يشرحون العلة في سببه وحسنه من المبالغة التي نبهنا عليها ومنه في النثر قول أعرابية وصفت رجلاً فقالت: لقد كان فيهم عمار وما عمار طلاب بأوتار لم تخمد له قط نار. فأرادت بقولها: لم تخمد له قط نار كثرة إطعامه الطعام فلم تأت بذلك اللفظ بعينه بل بلفظ هو أبلغ في المقصود لأن كثيراً ممن يطعم الطعام تخمد ناره في وقت. وكذلك قول الأخرى: له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك وإذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك. فأرادت: أن هذا الرجل ينحر إبله فقل ما تسرح وتبعد في المرعى لأنه يبركها بفنائه ليقرب عليه نحرها للضيوف والمزهر العود الذي يغنى به فإذا سمعت الإبل صوته أيقنت أنها هوالك لما قد اعتادته من نحره لها إذا سمع الغناء وانتشى وذلك لاتعتاده الإبل وتفهمه إلا مع الاستمرار والدوام.وهذا كله أبلغ من قولها: إنه ينحر الإبل على ما قدمناه وبيناه.
ومن هذا الفن من الإرداف قول أبي عبادة:
__________
1 وكناتها: أعشائها المتجرد: القصير الشعر هيكل: ضخم.
الصفحة 231
315