كتاب سر الفصاحة
فذلك لا يتفق إلا في كلام يقصد به الشعر وإن كان يريد بالبيتين مثل ما استشهد به من قول العامة: زمارة مليحة بقطعة صحيحة فقد يتفق من هذا الجنس ثلاثة أبيات في كلام لا يقصد به الشعر فالذي ذكره دعوى لا دليل عليها.
وإذا كان هذا بيناً فالفرق بين الشعر والنثر بالوزن على كل حال وبالتفقية إن لم يكن المنثور مسجوعاً على طريق القوافي الشعرية والوزن هو التأليف الذي يشهد الذوق بصحته أو العروض. أما الذوق فلأمر يرجع إلى الحس وأما العروض فلأنه قد حصر فيه جميع ما عملت العرب عليه من الأوزان فمتى عمل شاعر شيئاً لا يشهد بصحته الذوق وكانت العرب قد عملت مثله جاز له ذلك كما ساغ له أن يتكلم بلغتهم. فأما إذا خرج عن الحسن وأوزان العرب فليس بصحيح ولا جائز لأنه لا يرجع إلى أمر يسوغه والذوق مقدم على العروض فكل ما صح فيه لم يلتفت إلى العروض في جوازه ولكن قد يفسد فيه بعض ما يصح بالعروض على المعنى الذي ذكرناه كالزحافات المروية في أشعار العرب المذكورة في كتب العروض وهو الأصل الذي عملت العرب الأول عليه. وإنما العروض استقراء للأوزان حدث بعد ذلك بزمان طويل.
وأما التفضيل بين النظم والنثر فالذي يصلح أن يقوله من يفضل النظم أن الوزن يحسن الشعر ويحصل للكلام به من الرونق ما لا يكون للكلام المنثور ويحدث عليه من الطرب في إمكان التلحين والغناء به ما لا يكون للكلام المنثور ولهذه العلة ساغ حفظه أكثر من حفظ المنثور حتى لو اعتبرت أكثر الناس لم تجد فيهم من يحفظ فصلاً من رسالة غير القليل ولا يجد فيهم من لا يحفظ البيت أو القطعة إلا اليسير ولولا ما انفرد به من الوزن الذي تميل إليه النفوس بالطبع لم يكن لذلك وجه ولا سبب.
الصفحة 287
315