كتاب الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث الهجري

وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ». وقال في قصة تأبير النخيل: «فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلاَ تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ» (¬1).
وكما نبه الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه إلى مراعاة الفرق بين التشريع وغيره في قوله وفعله - نبه الصحابة بدورهم تلامذتهم من التابعين إلى مراعاة هذا الفرق. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الحَرِيصِينَ عَلَى الحَدِيثِ دَخَلُوا عَلَى زَيدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَقَالُوا: «حَدِّثْنَا أَحَادِيثَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم، قَالَ: كُنْتُ جَارَهُ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ بَعَثَ إِليَّ فَكَتَبْتُهُ لَهُ، فَكُنَّا إِذَا ذَكَرْنَا الدُّنْيَا ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الآخِرَةَ ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الطَّعَامَ ذَكَرَهُ مَعَنَا، فَكُلُّ هَذَا أُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟!» (¬2).
وفي ذلك يقول البطليوسي: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ يَذْكُرُ فِي مَجْلِسِهِ الأَخْبَارَ حِكَايَةً، وَيَتَكَلَّمُ بِمَا لاَ يُرِيدُ بِهِ أَمْرًا وَلاَ نَهْيًا. وَلاَ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلاً فِي دِينِهِ. وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ فِعْلِهِ مَشْهُورٌ مِنْ قَوْلِهِ» (¬3).
¬__________
(¬1) " حُجة الله البالغة "، للدهلوي بتحقيق سيد سابق: 1/ 171 - 173؛ وجاء في " مجمع الزوائد ": 1/ 178 (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطُوفُ فِي النَّخْلِ بِالمَدِينَةِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: فِيهَا وَسْقٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فِيهَا كَذَا وَكَذَا "، فَقَالُوا: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [" إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، فَمَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا قُلْتُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي] فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُصِيبُ وَأُخْطِئُ»). رواه البزار وإسناده حسن، وانظر أيضًا " مجمع الزوائد ": 1/ 79. في قصة تلقيح النخل.
(¬2) " حُجة الله البالغة ": 1/ 102.
(¬3) " نظرة عامة في [تاريخ] الفقه الإسلامي ": 1/ 118، 120.

الصفحة 18