كتاب خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني
أما هذه الطريقة الهابطة والتي تقوم على أساس أننا إذا لم نجد ما تحتاجه من فكر ومعرفة عند سلفنا نطلبه عند الآخرين فلا أراها إلا فلسفة الهمل، والعالة، وأهل العجز، وإنما سماها الهمل، والعجزة، والعالة، تنويرا وتحديثا، ومعاصرة.
والقول الثاني هو القول بأن البلاغة لما شغلت بموضوع الإعجاز تخلت عن رسالتها، وهي البحث في بلاغة الببيان ,أو "جمالياته" كما يحب أصحابنا أن يقولوا. وذلك لأنه داخلها المنطق والفلسفة المسيطران على قضية الإعجاز، ومن المقرر عند الشيخ أمين الخولي -رحمه الله- أن المنطق والفلسفة عدوان لدودان للبلاغة، وكنت أتابع ما يكتب بدقة لأني كنت أدد في كتابته شيئا افتقده عند كثير من الناس وهو سيطرة عقل قوى متمكن على كل ما يكتب، وإنك لترى هذا العقل آخذا بأزمة أفكاره باقتدار، وكان هذا ولا يزال يروقني سواء وافقت على النتائج التي سنتهي إليها أو خالفت، وأكره تلك العقول التي ترزح تحت وطأة ما تحفظه الذاكرة. وأحب العقل الذي ينتقي ويسيطر بعلم يتسع ووعي يدرك.
والقول بأن البلاغة فسدت لما داخلت موضوع الإعجاز كان من أعجب ما قرأت، لأننا لو تصورنا وجود بلاغة بعيدة عن الإعجاز وهي عندنا بلاغة صالحة، ثم لما داخلت الإعجاز فسدت نكون قد تصورنا وهما محضا؛ لأن البلاغة لم تولد إلا تحت عنوان "دلائل الإعجاز" الذي كتبه عبد القاهر، وهو المؤسس لهذا العلم، لأن مابحث البلاغة التي نقصد إليها حين نتحدث عن البلاغة، لم توجد قبل كتاب دلائل الإعجاز، وإذا كانت قد أنشئت وولدت من رحم الإعجاز، فكيف يتصور القول بأنها لما شغلت بالإعجاز فسدت؟ هذا كلام لا يلتئم أبدا وهو محض وهم، ولم أعرض لبيان فساده فيما كتبت لظهور هذا الفساد وإنما أنا الآن مضطر لبيان
فتح أبواب مسائل كثيرة ولم يستوف الكلام فيها، ويكتفي بأن يقول وقد نبهناك إلى الطريق يعني: أعطيناك المفتاح.
واعلم وفقني الله وإياك أن للعلماء مع العلم شأنا يجب أن ننبه إليه وهو أن العالم حين يصبر على مسالة من مسائل العلم وتطول ملابسته لها يراها تتسع بمقدار صبره عليها وانقطاعه لها، وأن طول مدة المراجعة وشمول المدراسة وعمق التحقيق والتحرير لا يفضي إلى السيطرة على حدود المسألة كما هو الشأن عند المحصلين وإنما يفضي إلى ستعتها وتباعد أطرافها، وكلما أمعن في الإبحار تباعدت عنه الشطآن، وإنما مرجع هذا إلى خصوصية في العلم الشريف وهي رحابته وعمقه واتساعه، وأن أهله هم الغارقون في محيطاته، وكلما ازدادوا علما ازدادوا معرفة بأنهم لا يعلمون، لأن زيادة العلم تكشف آفاقا من المجهول هي أضعاف المعلوم الذي حصلوه، وأن العقول التي منحت القدرة على كشف الأستار وإزالة الحجب هي التي تفسح لها المجالات تلو المجالات وتتراءى لها الآفاق بعد الآفاق ومن وراء كل ذ لك غيب من ورائه غيب، وهذه هي طبيعة رحلة أهل العلم في مضاربه وآباده، وقد قال سقراط في آخر أيامه التي قضاها في استكشاف الحقيقة: إذا كنت علمت شيئا فهو أني لا أعلم، وقال علماؤنا من ظن أنه علم فقد جهل، ولا معنى لهذا إلا الذي قلته من أن طبية المعرفة أنها تقودك من معلوم تعلمه إلى مجهول لا تعلمه، وإذا لم يتنه بك المعتلوم إلى مجهول فاعلم أن هذا المعلوم خدعك وأوهمك أنك علمته وما علمته.
وأضع بين يديك نصا لعبد القاهر ترى فيه ما أريد أن أقوله بصورة أوضح وقد ذكر هذا النص في صفحة 261 من "أسرار البلاغة"، وقد شغل هذه الصفحات بالبحث في الفرق بينا لتشبيه والتمثيل والاستعارة، وكأنه قد استطال ما كتب وهو عازم على أن يزيد الكتابة في هذا قال: "ولئك كان الذي نتكلف شرحه لال يزيد على مؤدي ثلاث أسماء، وهي التمثيل والتشبيه
الصفحة 12
304