كتاب خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني
النهج وهذا الطريق حين ضرب المثل بالغيث أصاب أرضا وكانوا رضوان الله عليهم التربة الطيبة التي أمسكت الماء وأنبتت الكلأ، وكانوا هم ورثة علم النبوة ثم روثوه لمن هو أشبه بهم، وهكذا ظلت هذه العلوم يتوارثها خيار الورثة من علماء الأمة رضوان الله عليهم، ولا معنى لهذا التوريث إلا أن يكون على الحد الذي وصفه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه في حديث: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم" يعني بعد ما يصيب هذا الإرث أرضا طيبة تمسلك الماء الذي هو الأصل ثم تنبت الكلأ الذي هو اجتهادات أهل الفقه والبصيرة، والصبر والانقطاع فمن ورث ما نزل لا غير كان كالأرض التي تمسك الماء ولا تنبت الكلأ وهم الحفظة المحصلون الذين لم تسلك المعرفة في نفوسهم مسالك الحياة والحيوية فتهزها وتربوا فيها وتربوا بها وتنبت هذه المسالك الحية حولها صورا من الفكر وصورا من الخواطر حتى تكون كالجنة بربوة، وقد ضرب الله مثل الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين، هكذا ترى الفكرة أو الكلمة تتحول إلى معين يعطي عطاء ويغدق غدقا وإنما تكون كذلك بالحفاوة بها والصبر علهيا وطول معالجتها، ولهذا نقول إنه ليس في المعرفة شيء اسمه الجمود ولا شيء اسمه التوقف وليس في المعرفة ما يوصف بأنه نضج واحترق أو نضج ولم يحترق إلى آخره وإنما يكون شيء من ذلك في نفوسنا نحن حين لا نعطي المعرفة حقها من الحفاوة والعناية والانقطاع ولا نسكنها داخل نفوسنا هناك في جوهر النفس الحي الحساس، وحيث تحتضن الأفكار كما تحتضن بالذرة الملقاة في الأرض الطبية، وفإذا لم تنشق سدوف النفس وحجب الغفلة عن الفكرة البكر وماتت الفكرة هناك كانت كالبذرة الملقاة في القعيان، وإأنما تصاب الفنوس بالموات بسبب الإأهمال وترك الصدأ والغفلة يقتات من جوهرها ويفسد معدنها، ولم تعرف في تاريخ العلوم علماء انقطعوا وصدقوا وصبروا على تثقيف نفوسهم إلا وكان لهم في العلم عطاء.
مضت الأجيال في تاريخ العلوم الإسلامية على نسق واحد لم يبتدل وهو
الصفحة 15
304