كتاب خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني

أن كل جيل في كل فرع كان يكتب علوم هذا الفرع كتابة على الحد الذي وصفناه ويقدماه للجيل الذي يقومون على توجيهه وتعليمه، وقد كانت حفاوة علمائنا بتلاميذهم حفاوة كريمة لأنهم يعلمون أن حياة المعرفة ليست في مدونات الكتب فحسب، وإنما تكون حياتها بتوصيلها إلى عقول أبناء الأمة، وليس هذا إحياء للعلم فقط وإنما هو إحياء للأجيال، لأن المعرفة تحيا بالإنسان ويحيا بها الإنسان وتتطور بالإنسان وتطور بها الإنسان، وبمقدار حظ الأجيال من الحيوية والسخاء يكون حفظ المعرفة من التقدم والازدهار.
كل جيل من أجيال النحاة كتب النحو، وكل جيل من أجيال البلاغيين كتب البلاغة وأنت واجد عقل كل كالتب فيما كتب وطريقة تفكيره وطريقة تحليله، وهو بهذا الذي يودعه في أصول المعرفة يهيئها به ويقربها للجيل الذي يقوم عليه، ولا شك أنه أقدر على خطاب هذا الجيل، وأن صوته أقرب إلى أسماعهم وحواره أقرب إلى عقولهم وطيقة تأتيه إنما هي مشتقة من زمانه الذين هم جزء منه، ومعرفة الاهتمامات والشواغل الفكرية، والاتجاهات كل ذلك داخل في اعتباره وهو يخاطب الجيل الذي يعيش كل ذلك، وهذا هو تحديث العرفة في كل زمن وتجديد المعرفة في كل زمن، وهو أمر طبيعي حين يقوم اللعماء بواجبهم نحو الجيل الذي يمثل تلاميذهم هم بلا ريب يجددون العلوم وينقولنها إلى الزمن الأحدث، وهذا غير المعاصره والتحديث والتجديد الذي يتكلم عنه الناس في زماننا لأنه لا يعني إلى إقحام فكر الآخرين وتغليبه على فكرنا، هو يعني محو هذه العلوم كلها ووضع علوم الأخرين مكانها هو عيني تدمير حضارة الإسلام وعلوم الإسلام، وهو عمل سياسي استعماري وليس عمل فكري -وهو جريمة بشعة تحت اسم خداع.
ونحن نتكلم عن تحديث العلوم وتجويدها ونقول إنه شيء يحدث تلقائيا في حركة فطرية تقوم عليها حركة الفكر وانتقال المعرفة من جيل إلى جيل، وهذا الانتقال الذي هو جزء من فطرة المعرفة وفطرة الإنسان لا يتم إلا إذا كانت روح العصر قد داخلته وروح التجديد قد داخلته وروح التحديث قد داخلته وذلك حين تعيش هذه المعرفة في صدور العلماء المنقطعين، وحين يعكفون

الصفحة 16