كتاب خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني

قائمًا، ولا أن يقول: كل رجل وشيعته مقترنان، هذا مخالف لمألوف زكاء العربية؛ لأن العربي لا ينطق بما دل عليه الدليل الظاهر، العربي لا يقول: لولا علي موجود لهلك عمر، ولو نزعت لسانه من بين فكيه؛ لأن هذا ليس من لغته وكذلك لا يقول: لعمرك يمينى لأفعلن ولا يقول: لو شئت أن أفعل هذا لفعلته؛ لأن هذا يناقض طبعه وطبع لغته التي هي طبعه لهذا كان الإيجاز في طبع بلاغة العربية، وداخل في أصل هذه التراكيب، وكأنها عجنت منه.
انظر إلى: ضربي زيدا قائما تجده ينطوي على دقة عجيبة في التأليف لا يهتدي إليها إلا عارف بطبائع العلاقات في الجمل، فهو مثال يتكون من كلمات ثلاث تطوي وراءها كلمات أربع، إذ الأصل ضربي زيدا حاصل إذا كان زيد قائما، فالمحذوف أكثر من المذكور، وهذا المحذوف أشار إليه بتصرف قريب، ودقيق هو تنكير "قائما"؛ لأنه بذلك منع أن يكون وصفا لزيد، وبذلك يتعين أن يكون بقية جملة أخرى، وقوله: ضربي زيدا جزء جملة يتعين أن يكون له ما يتممه، فتحصل أن صدر هذا المثال اقتضى محذوفا يكون هذا المحذوف تماما له: وعجزه اقتضى محذوفا يكون هذا المحذوف ابتداء له، مع ضرورة أن يكون بين هذه المحذوفات ما يربط الجملتين رباطا صح معه هذا التلاؤم الذي تراه بين الجزئين المذكورين.
أرأيت دقة الصنعة، ودقة رصف الكلام، وتشابكه وتعاونه.
ومما ترى الحذف فيه يفيد العبارة قوة وامتلاء، ما ذكره سيبويه في الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها عمل الأفعال، وهي: إن، ولكن، وليت، ولعل، وكأن.
فقد ذكر أن هذه الحروف يحسن السكوت عليها مع إضمار خبرها وعبارته: "باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة لإضمارك ما يكون مستقرا لها، وموضعا لو أظهرته"، ثم مثل بقولهم: إن مالا وإن ولدا وإن عددا أي إن لنا أو لهم مالا، وإن لنا أولهم ولدا، وإن لنا أو لهم عددا، وذكر قول الأعشى: "من المنسرح"

الصفحة 280