كتاب خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني

إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في السفر ما مضوا مهلا
والأصل إن لنا محلا وإن لنا مرتحلا، قال الشنتمري في كتابه تحصيل عين الذهب: الشاهد فيه حذف خبر إن لعلم السامع، والمعنى إنا لنا محلا في الدنيا ومرتحلا عنها إلى الآخرة، وأراد بالسفر من رحل من الدنيا، فيقول في رحيل من رحل ومضى: مهل، أي لا يرجع، ويذكر سيبويه في هذا الباب قول الشاعر:
ليست أيام الصبا رواجعا
والأصل: ليت لنا أيام الصبا، أو ليت أيام الصبا أقبلت رواجعا، والمهم أن الخبر محذوف في الحالين، ويذكر قولهم: إن غيرها إبلا وشاء، أي: إن لنا غيرها، وانتصب إبل، وشاء على التمييز.
وعبارة سيبويه في هذا البحث لا ترشد إلى أن الحذف هنا جائز فحسب، وإنما ترشد إلى أنه باب من أبواب الحسن، ولعله يقصد ما نزعمه سببا في بلاغة هذه الأساليب من وجازة الجمل، ونقائها ودلالتها على قوة نفس منشئها، وامتلاء حسه، وأظن أنه لا يخطئنا ما وراء قول القائل: إن مالا وإن ولدا وإن عددا من اعتداد واعتزاز، وقوة لا تكون على هذه الدرجة لو قال: إنا لنا مالا وإن لنا ولدا إلى آخره؛ لأن استرخاء العبارة حينئذ يوحي بفتور الشعور بالمعنى، وأظن أنه لا يخطئنا أيضا أن الأعشى يصف السرعة الخاطفة في الحلول والارتحال، وكأن هذه السرعة التي يحسها بزوال الدنيا انعكست على عبارته، فطوى فيها كثيرا من الكلمات؛ لأن سياق المعنى في اليبت طي وإضمار وابتلاع: حلول يخطفه الارتحال، وارتحال دائم إلى بطن الغيب، وسفر لا أوبة لهم.
قال عبد القاهر، وهو يتحدث عن مزايا إن في الأسلوب: "ومنها أنها حين تقع في الجملة قد تغني عن الخبر في بعض الكلام"، ثم ذكر كلام سيبويه، ثم قال: "فقد أراك في هذا كله أن الخبر محذوف، وقد نرى حسن الكلام

الصفحة 281