كتاب خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني

ومن جيد ما يجيء على حذف المسند، والمسند إليه ما يقع في كلامهم من إقامة المصدر مقام الفعل كقوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} 1، أي فاضربوا الرقاب ضربا، فحذف الفعل وفاعله، وأفاد هذا الحذف العبارة قوة، ونفاذًا ترى اللفظ فيه قد لاءم سياقه أحسن ملاءمة سرعة ومضاء، فالضرب المأمور به هو الضرب السريع الخاطف فور اللقاء.
ومن هذا حذف القول وفاعله، وهو كثير في كتاب الله وله مواقع شريفة، من ذلك قوله تعالى في وصف هذا المشهد الهائل من مشاهد الحشر: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} 2، والشاهد قوله: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا} ، وأصله: فيقال لهم لقد جئتمونا ومزية هذا الحذف في بناء الكلام بعده على أسلوب الالتفات، وهو أسلوب له خطره في التصوير، والتأثير كما أشرنا، ألا ترى أن المولى عز وجل كأنه بعد ما عرضوا هذا العرض المستسلم في هذا السياق المفزع حيث التجلي الأعظم لقدرة ذي البطش، فالجبال الرواسي تسير في الجو هباء منثورًا، والأرض عارية ذهب كل من يسترها من إنسان وحيوان، ونبات أقول ترى المولى عز وجل بعد
ما عرضهم العرض المستسلم كأنه يتجه إليهم معنفا أشد تعنيف: لقد جئتمونا كما خلقناكم وكنتم تكذبون، وتقولون ذلك رجع بعيد، وتزعمون ألن نجعل لكم موعدًا، هذا المعنى الذي جاء على طريقة الالتفات التي هيأ لها الحذف هو فيصل القضاء في هذا الموقف؛ لأنه متعلق التصديق، والتكذيب في رسالات السماء.
ومثله وعلى طريقته قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} 3، والكلام على الحذف كما قالوا في سابقه، أي فيقال لهم: أذهبتم، والعرض هنا غير العرض في الآية السابقة،
__________
1 محمد: 4.
2 الكهف: 47، 48.
3 الأحقاف: 20.

الصفحة 287