كتاب خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني

في أنك تثبت له صفة هو عليها من غير إشعار بشيء آخر ولا إشارة إليه، ولو قال: كلبهم يبسط ذراعيه لكان المعنى أن الكلب يحدث البسط، ويزاوله ويتجدد منه شيئا فشيئا، وليس هذا هو المراد، وإنما المراد أن الكلب باسط ذراعيه بالباب، وهو على هذه الصورة الثابتة الجامدة، فتظل الصورة الثابتة الجامدة، فتظل الصورة العامة لفتية الكهف يلفها سياج من المهابة والخشية: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} 1.
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} 2.
يقول الزمخشري: "فإن قلت: لم قيل: ويقبضن، ولم يقل: وقابضات؟ قلت: لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل، على معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض كما يكون من السابح".
وقول الأعشى: "من الطويل"
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
قال: في يفاع تحرق، أي تتحرق، واليفاع المشرف من الأرض، فالنار على مكان عال تتحرق، ولو قال: متحرقة، لأنكرته النفس كما قال عبد القاهر، وذلك؛ لأن قولنا في يفاع متحرقة يفيد أن النار متحرقة فقط، وليس هذا غرض الشاعر، وإنما غرضه أن النار تتحرق ويتجدد منها الإحراق، ويحدث شيئا فشيئا، وأن المحلق هناك يجدد ويعلي لهبها، واشتعالها لتكون ناره أهدى لسارب الليل، وأجلب لطالب المعروف، وفيه من الدلالة على تمكن طبيعة السخاء، والبذل ما ليس في غيره.
__________
1 الكهف: 18.
2 الملك: 19.

الصفحة 298