كتاب خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني

عالما بنحو اللغة الفارسية، وأن عبد القاهر كان عالما ببلاغة اللغة الفارسية، وغيرهم كثير ممن كانوا علماء في علوم لغات أخرى كما ذكر ابن جني وغيره، ومع ذلك لم أجد في كلام أبي علي سطرا واحدًا من نحو الفارسية، ولم أجد في كلام عبد القاهر حرفا واحدا من بلاغة الفارسية، إلا بيت شعر ترجمه عن الفارسية، وجعله شاهدا في المعاني التخييلية، ولو أن كل جيل من علمائها الذين سبقونا تسامح وأضاف كل عالم منهم سطرا واحدا من لعوم الآخرين لكان الذي بين أيدينا الآن شيئا آخر هجينا فاسدا كالذي نكتبه.
وإني لأرى هذا التشدد في أن لا يدخلوا على أصول العربية وأقيستها إلا ما هو من صميمها في كلام كثير اقرؤه لهم.
ودونك واحدة اختصرها لك اختصارا؛ ولعلك ترجع إلبيها في مصدرها.
اجتهد أبو الفتح ابن جني ورأي أن تقديم المفعول على الفاعل أصل ثان متفرع عن أصل أول ونو تقديم الفاعل على المعفول، وعليه يكون قولنا ضرب غلامه زيدا مقيسا لأن زيدا متأخر لفظا متقدم رتبة، لأن رتبته التقديم بناء على ما قدر، ثم قال إن هذا القياس الذي يصير فيه الفرع أصلا تقبله اللغة ولا تعافه ولا تتبشعه، واستشهد لذلك بكلام لسيبويه؛ لأن سيبويه قاس الجر في "هذا الضارب الرجل" على الجر في "هذا الحسن الوجه" وبذلك يكون الضارب الرجل وصير الفرع أصلا، لأن الفرع لما كثير وتمكن رجع الأصل الذي أعطاه حكما من أحكامه واستعاد منه هذا الحكم، وبذلك يصح لأبي الفتح أن يعتبر تقديم المفعول أصلا لأنه كثر وتمكن.
وهواجسه والتقاط سوانحه والحس بوقعه ورنينه وأضوائه، ولا يكون شيء من ذلك بالقراءة المتساهلة وإنما يكون ذلك بالصبر والتنظيم والانقطاع.
واعلم أن المادة البلاغية التي هي متون هذا العلم مع فضلها ونفعها، وجلالها لن تفيدك شيئا ما لم تؤسس تناولك لها على هذا الأصل، ما لم تكن قد رضت نفسك على تذوق الشعر وتأمله والحفاوة به، وهذا هو الذي يجعل لعلوم العربية كلها عندك مذاقا غير مذاقها، وأنت تحفظ أصولها وفروعها وليس عندك هذا الرصيد من الفهم للشعر والمصاحبة له، وفرق كبير بين اللغة وعلوم اللغة، واللغة التي هي غايتنا: ما نطق به أصحاب اللسان، وعلوم اللغة هي: العلوم التي استنبطها العلماء مما نطق به أصحاب اللسان ومن كان بمعزل عن الذي نطق به أصحاب اللسان فلن يكون مصولا بعلوم هذها للغى، فإه حفظ متونها وشروحها كان قد حصل علما معلقا في الهواء لا يثبت على قاعدة من بيان أصحاب اللسان ولا يرجع في المدارسة والتدقيق إلى طرائق القوم ومذاهبهم.
وهذا من أهم الأسباب التي جعلت طلاب العلم المبتدئين يشكون من صعوبة علوم العربية ومن جفافها وجمودها على حد ما نسمع منهم.
ومن المستحيل أن يكون لطالب العلم بصيرة في أي باب من أبواب البلاغة وهو عاجز عن قراءة معلقة من المعلقات، وإنما تكون له هذه البصيرة إذا حفظ المعلقات، وعرف مذاهب شعرائها وما بينهم من تقارب أو تباعد وكيف بنى كل منهم معلقته، وكيف سلسل أبياتها، ومذا قال في النسيب، وما مذهبه في وصف الرحلة، وما الفرق بينه وبين نظرائه في وصف الحيوان والخروج إلى الغرض إلى آخر ما هو من أوليات الفهم للشعر. فضلا عن أن يغوص في الدقائق، ويلحظ علاقات الصور داخل المعلقة الواحدة، وعلاقات الصيغ "الأبينة"، وما غلب على الشاعر فيها من ضروب الرصف وعلاقة ذلك ببقية شعره.

الصفحة 4